قيل في فلسفة الشأن السياسي: إن الذي يخوض معركةً دون أن يكون مستعداً لها هو مغامر، وإن الذي يهرب من معركةٍ فرضت عليه هو انتهازي. والأجدر بالقول: إن الاستعداد وحده لا يكفي دائماً لضمان النصر، وأما الهروب فلا يعني دائماً تأمين النجاة.

أحياناً تكون المعركة المشرفة أكبر من النصر نفسه، وفي أحيانٍ أخرى يكون تفادي المواجهة الخاسرة أعلى درجات الشجاعة. لا توجد وصفة جاهزة للتيقُّن من صحة الخطوة معركة الأمم المتحدة ناهيكم عن دقّتها، والأسباب كثيرة.

فالخطوة، شئنا أم أبينا، تمسّ دور ومكانة وسمعة وهيبة الولايات المتحدة، وتسبّب لأكبر دولة في العالم حرجاً شديداً، وذلك بالنظر إلى هذا الانحياز اللامعقول والمطلق لإسرائيل، وعدم قدرتها في ضوء هذا الانحياز بالذات وبسببه تحديداً على ممارسة أية ضغوط على إسرائيل في ظل حالة الهوس الانتخابي التي ركبت رئيس الولايات المتحدة بصورة مبكّرة، مما جعله أكثر رؤساء الولايات المتحدة سرعةً في التراجع عن مواقفه وعهوده وأكثرهم عجزاً عن إبداء أي نوع من الصلابة في مواجهة إسرائيل.

ومما يزيد الطين بلّة أن استخدام الولايات المتحدة لـ "الفيتو" سيضعها في مواجهة لا ترغب بها على الإطلاق مع ملايين العرب الذين يخوضون معارك الحرية والكرامة والديمقراطية على امتداد الوطن الكبير، وهو الأمر الذي سيقوّض موضوعياً قدرتها على تدجين هذا الشارع ووقف طموحاته بالمساهمة المباشرة في صنع القرار السياسي والاقتصادي والتنموي، وفي كل مجال وعلى كل صعيد.

أما الطامة الكبرى فهي أن الولايات المتحدة تدركُ أن معادلة السلام في كامل الإقليم، ما بعد القرار الأميركي وبعد هذه الحملة المحمومة ضد التوجهات الفلسطينية ستهتزُّ إلى أبعد حدود الاهتزاز، والرعاية الأميركية، والتحكم المباشر بهذه المعادلة لن يعود إلى سابق عهده إلا بمغادرة الولايات المتحدة سياستها القائمة على الانحياز الشامل للمصالح الإسرائيلية والمواقف الإسرائيلية المسؤولة مباشرة عن معظم قضايا التوتر والعنف واللااستقرار في كامل المنطقة. وقد يكون الأدهى من كل ذلك هو دخول المنطقة وكامل الإقليم في مرحلة مفتوحة على احتمالات أكبر من التوقعات وأخطر مما هو قائم اليوم وبما لا يقاس.

إذاً، الخطوة الفلسطينية هي أكبر معركة ومواجهة سياسية في التاريخ المعاصر مع الولايات المتحدة، على اعتبار أن المعارك التي سبقت مؤتمر مدريد لم تكن مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وكانت حينما تتم، تتم وتدور على قاعدة الخصام والعداوة والسلبية، بينما تدور معركة اليوم في دائرة العلاقة الإيجابية التي حكمت العلاقة الأميركية الفلسطينية على مدار عقدين كاملين على الأقل.

وعندما يتعلق الأمر بالبلدان الأوروبية، فنحن نعرف سلفاً أن مواقفها كانت إيجابية عموماً ونسبياً، وكانت أوروبا تحاول أن تصوغ لنفسها (بقدر ما يتعلق الأمر بالحقوق الفلسطينية) مواقف مستقلة نسبياً، وكانت معادلة العلاقة الأميركية الأوروبية على هذا الصعيد تتراوح بين تسليم أوروبا بالدور القيادي والمهيمن للولايات المتحدة وقبول الولايات المتحدة الهامش النسبي المختلف لأوروبا عن المواقف الأميركية المنحازة للعدوانية والتوسعية، وأحياناً العنصرية الإسرائيلية.

مشكلة أوروبا اليوم هي أن الولايات المتحدة حوّلت التوجّه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، وكأنها معركة مصيرية للشعب الأميركي، ودفعت بالخلاف إلى أقصى حدوده الممكنة، وتدهورت الأمور بسرعة مذهلة حتى أصبحنا اليوم أمام مواجهة صريحة، وصلت إلى حدّ استخدام الولايات المتحدة لغة التهديد والوعيد، وخرجت الدبلوماسية الأميركية عن "وقارها" وتجاوزت كل حدود اللياقة.

أوروبا تعرف حق المعرفة أن لا وجود لمعركة حياة أو موت، وأن المعركة فقدت كل المعايير والقيم وتحوصلت في عجز الرئيس الأميركي وخوفه على الانتخابات القادمة.

 

أوروبا لا تستطيع أن تدير ظهرها للولايات المتحدة، وهي ترى الإدارة الأميركية، وقد دفعت بالتناقضات إلى أقصى الحدود، وهي في المقابل وطالما أن المعركة قد وصلت إلى هذه الحدود لا تستطيع أن تتبنى مواقف الولايات المتحدة التي خرجت عن كل معقول ومتصوّر، وهي تبحث لنفسها عن دور ما يحفظ ما "تبقّى" لها من دور مستقل نسبياً، خصوصاً أن عينها على الشارع العربي وعلى مسارات التحول الهائلة التي يحدثها الحراك الشعبي في طول بلاد الجار الجنوبي كله. كما أن الولايات المتحدة على ما يبدو لا تريد هذه المرة أن تبقي لأوروبا أية هوامش حتى لمجرّد المناورة الشكلية. إذاً، فالمعركة التي تخوضها فلسطين معركة صعبة وقاسية، وهي تلقى من الدعم والتأييد ما هو عظيم الأهمية، لكنها لا تلقى من الدعم والإسناد والاستعداد لخوضها بكل العناصر والأدوات والإمكانيات العربية، وهذا الأمر بالذات هو نقطة الضعف الأساسية في جبهة هذه المعركة.

إنها معركة فاصلة، وقد تكون مصيرية والأصعب على امتداد ثلاثة عقود مضت، وهي بالتأكيد تنطوي على أبعادٍ غايةً في الدقة والحساسية على المنطقة والقضية وكامل مسار تطور الإقليم. من المعيب ألا يرى البعض منّا معركةً بهذه الأهمية، ومن المضحك أن يعتبر البعض أنها معركة استعراضية، وتدعو إلى الشفقة تماماً الأصوات التي تطالبنا بالتراجع. فمن الواضح أن هذه الأصوات إما أن تكون فاقدة للرشد الوطني أو غائبة عن الوعي السياسي أو ما زالت تقيس الأمور بمقياس المراهق السياسي. هذه معركة صعبة ولكنها هي وليس غيرها في المدى المرئي قبل المدى البعيد ما سيمكننا من الحفاظ على كينونتنا وهُويّتنا وحقوقنا وأهدافنا.

وإذا تراجعنا فليس أمامنا إلاّ العجز والاستسلام، أو السحق المباشر، والخسائر التي يمكن أن تترتّب على توجهنا هي خسائر صغيرة ومؤقتة مقارنة بالمكاسب التي سنحققها بمقياس اللحظة السياسية وبمقياس المسار المؤكد لمعركة الحرية والاستقلال وتقرير المصير. والمخاطرة بما بعد أيلول أقل من المغامرة بما قبله. وإذا قامت أية قائمة لعملية سلام أو مفاوضات بعد أيلول فسنرى كيف أن المعادلة قد اختلفت والموازين، أيضاً.