العام 1982 اجتاحت الدبابات والمصفحات الإسرائيلية الجنوب اللبناني وجعلت من الجنوب مأساة وتقدمت نحو العاصمة بيروت وفي أثناء تقدمها هدمت البيوت وقضت على الأرواح ومضت في خطتها الأساسية غير المعلنة وهي الإطاحة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية .. في سبيل كل هذا صمدت القوات الفلسطينية واستمر القتال في المخيمات واضطر الآلاف لإخلاء بيوتهم تحت ضغط الرعب واليأس .. لقد أعلن الفلسطيني انه سيدافع عن الوجود الفلسطيني وعن الأرض العربية اللبنانية وعن الديار والقضية والهوية .. وحينها أعلن وزير الخارجية الاسرائيلي شامير بأن إسرائيل تهدف الى أبعد من الدفع بمنظمة التحرير بعيداً ،وأن الغاية هي تحطيمها بصفتها كياناً سياسياً إرهابياً .. يومها نقلت وكالات الانباء أخبار المقاومة العنيفة والباسلة من قبل قوات م.ت.ف في صور وصيدا ..

لقد كان فجر كل يوم يحمل مزيدا من الموت والضحايا والدمار والالم والتقدم الاسرائيلي صوب العاصمة واحراق مدن ومناطق بأكملها ..

لقد قصفت اسرائيل مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني بالقنابل واسقطت القنابل العنقودية على مخيم برج البراجنة والمستشفى الأرمني في بيروت وأصبح عدد الضحايا والشهداء بالآلاف وكانت رائحة الجثث المكدسة تعمّ الجو فحفرت الخنادق لتتحول الى مقابر جماعية ..

ولقد جاءت الضربة القاضية عندما بلغ العدوان أبشع مراحله خلال مجازر مخيمي " صبرا " و " شاتيلا " في بيروت . فقد كان المنتظر بعد إجلاء قوات وكوادر وقيادات م.ت.ف في أواخر أغسطس ، والاتفاقية التي تمت بواسطة من فيليب حبيب ، أن تراجع اسرائيل موقفها وتصغي الى الاستهجان العالمي لأعمالها ، وتمتثل لمطالبه العادلة . غير أن مجلس وزراء الحرب الاسرائيلي قام بالاجماع برفض مشروع " Regan" للسلام 2 سبتمبر .. وشُيدت على الفور ثماني مستوطنات غير شرعية على الأرض العربية المحتلة . وكان ذلك بمثابة لطمة جديدة في وجه الاستنكار العالمي وقرارات الأمم المتحدة . وفي اليوم السادس من نفس الشهر " سبتمبر " سلمت لجنة مخيمي " صبرا " و " شاتيلا " جميع الأسلحة المتبقية في المخيمين للجيش اللبناني .. وفي يومي 10و11 سبتمبر تركت القوات الايطالية والأمريكية بيروت وعلى أثر ذلك قرر بيجين وشارون تنفيذ عملية " العقل الحديدي " حيث كان الهدف الأساسي للعملية الاجرامية هو القضاء على من تبقى في بيروت من الفدائيين الفلسطينيين .. ولقد ابتدأت العملية في الساعة الثانية من صباح يوم 15/9 وكانت هي العملية المؤامرة حيث اشتركت قوات وقادة الكتائبيين في الجيش وجهاز الاستخبارات اللبنانية .. ولقد روي عن لسان القادة الكتائبيين قولهم " لقد انتظرنا هذا اليوم أعواما طويلة ..؟! " ... وكانوا يشجعون جنودهم بإيهامهم بأنهم المختارون للثأر لمقتل الرئيس اللبناني بشير الجميل وستين من رجاله أثر انفجار قنبلة في مقر الكتائب في بيروت الشرقية .. ولقد أثبتت الأحداث والتاريخ أن اسرائيل هي من قامت بالقتل كبداية لتفجير عملية العقل الحديدي .. وكان دوما المقاتل والضحية الفلسطيني هو المتهم ..

يوما خيم الظلام على بيروت بعد غياب الشمس وقد انقطع التيار الكهربائي .. وظهرت فوق المخيمين القنابل المضيئة عند منتصف الليل .. وتلاحقت أصوات نيران البنادق المتقطعة تعلو داخل المخيمين .. كانت المجزرة التي روعت العالم قد بدأت .. وفي اليوم التالي أعلنت تل ابيت أن " جيش الدفاع الاسرائيلي يسيطر على جميع المناطق الاستيراتيجية في بيروت ،وأنه تم حصار وعزل المخيمات التي تحوي التجمعات الارهابية ..؟! .. يومها كان مستشفى غزة في قلب المخيمين يستقبل الوافدين من المصابين .. وارسل المجلس البلدي المسؤول عن المخيمين خمسة من الرجال كبار السن للتفاوض من أجل وقف المجزرة فقتُل اربعة منهم ، وهم حامد اسماعيل " 55 عاما " ، وأحمد سعيد " 65 عاما " ، وأبو سويعد " 62 عاما ، وتوفيق حشمة

وفي اليوم التالي شوهدت خمسٌ وعشرون عربة " جيب " مليئة برجال مليشات ومجرمي الكتائب تتقدم عبر الطريق المؤدي الى المخيمين ، وعندما خرج بعض سكان المخيم الى الضباط الاسرائيلييي ، طلب هؤلاءمنهم أن يعودوا الى المخيم قائلين إنه لا خطر عليهم ..

وبعد ظهر نفس اليوم دخلت ثلاث وحدات من الجنود الكتائبيين يبلغ عدد كل منها خمسين رجلاً الى المخيمات ، يساندهم الجيش الارهابي الصهيوني حيث القصف بالمدفعية الثقيلة .. وبدأت المجازر تحت حماية ومساندة ومشاركة الجيش الاسرائيلي الذي كان يحاصر المخيم ويمنع الدخول اليه والخروج منه ..وبعد أيام من السماح للصحفيين والمصورين بدخول المخيمات .. لم يكن هناك وصف يمكن أن يصف هول جريمة الجيش الصهيوني وقوات العمالة.. لقد كانت جثث النساء والأطفال مكومة على جانبي أزقة المخيمات الضيقة ورجال مسنين تم إعدامهم على عتبات بيوتهم .. ولقد جاء في رواية الضابط الاسرائيلي "أوعلول " أنه سمع قائداً محلياً " يقول لأحد مرؤوسيه من الجنود خلال اللاسلكي - ردا على سؤاله الأخير عن كيف يتعامل مع وجود عدد كبير من النساء والأطفال في المخيم – " أحذرك من أن تلقي عليَّ بمثل هذا السؤال مرة أخرى .. فأنت تعرف تماما ماذا يجب عليك أن تفعل بهم " .. وكان المعنى هو أمر مباشر بقتل كل فلسطيني كائن حي في المخيم .. لقد راقب أكثر من مائتين من الضباط والجنود الاسرائيليين عملية الابادة داخل المخيمات، واستمروا في قصف المخيم بالمدفعية .. وفي النهاية لم تجد اسرائيل أي مقاتل فلسطيني في المخيم أو بين الجثث .. حيث كانت تسمي خيرة رجال المقاومة الفلسطينية " بالمخربين " .. إن الحصيلة الدقيقة للقتلى من المدنيين الذين أزهقت أرواحهم في تلك المجزرة لن تُعرف أبداً؛ فتقديرات المخابرات العسكرية الإسرائيلية تشير إلى أن ما يتراوح بين 700 و800 شخص قد قُتلوا في صبرا وشاتيلا أثناء المجزرة التي استغرقت اثنتين وستين ساعة، بينما قالت مصادر فلسطينية وغيرها إن عدد القتلى بلغ بضعة آلاف من الفلسطينيين واللبنانيين من بينهم الأطفال والنساء (بما في ذلك الحوامل) والشيوخ؛ الذين تم التمثيل ببعضهم أشنع تمثيل، فطعنوا ونُزعت أحشاؤهم قبل أو بعد قتلهم ..

لقد كانت ساعة البداية في "صبرا وشاتيلا"، مع غروب يوم الخميس في السادس عشر من أيلول/ سبتمبر سنة 1982، وكانت النهاية -إن تكن للمجازر من نهاية- الساعة الواحدة في عزّ الظهيرة من يوم السبت في الثامن عشر من الشهر نفسه. وبلغة الساعات، فالمجزرة امتدت ثلاثاً وأربعين ساعة متواصلة.

ولقد عقب الارهابي مناحيم بيغن أمام الكنيست يصف رجال المقاومة الفلسطينية "إنهم حيوانات تسير على ساقين اثنين"، فيما أعلن ضابط محلي بعد إعلان نبأ المذابح "أن سيوف وبنادق المسيحيين ستلاحق الفلسطينيين في كل مكان ، وسنقضي عليهم نهائيا". .

اليوم.. وبعد تسعة وعشرين عاماً على مجزرة صبرا وشاتيلا لم يحاكَم المجرمون القتلة الذين قاموا بارتكابها من عناصر الميليشيات اللبنانية، كذلك لم يحاكَم أحد من الإسرائيليين الذين قاموا بحماية المجرمين القتلة وتسهيل مهماتهم!!

إن التاريخ الفلسطيني لن ينسى ابدا دموية تلك المجازر ولن يسامح أحد .. ومهما طال الزمن أو قصر فسوف يأتي اليوم الذي يعود الحق لأصحابه .. وهذا أقل وفاء لمن قتلوا بدم بارد وأعدموا في بيوتهم ومثَّل بجثثهم .. ولقد أثبت التاريخ أن صاحب الحق لا يموت .. ولا يموت حقٌ وخلفه مُطالب ..