أمس حلَّت ذكرى أليمة وموجعة أصابت الجسد الفلسطيني في مقتَل، تلك الجريمة البشعة التي أدمت أبناء الشعب، وتركت بصمةً ظلاميّةً سوداء غير مسبوقة في البناءَين الأفقي والتحتي، نجمَ عنها تمزيق وحدة النسيج الوطني والاجتماعي والثقافي، هي الذكرى الثانية عشرة للانقلاب الحمساوي الأسود على الشرعية الوطنية، الذي تكرَّس في الـ14 من حزيران/ يونيو 2007.
تلك الذكرى وتداعياتها الخطيرة لم يسبق للشعب العربي الفلسطيني أن عاش مثيلاً لها في تاريخه كلَّه مذ تبلورت شخصيّته وهُويته الوطنية، رغم وجود تناقضات تناحرية في محطات تاريخية مختلفة في الصف الفلسطيني. وإذا توقّفنا أمام القرن الماضي، نلحظ وجود التناقضات بين قوى الثورة في مختلف محطات الصراع مع دولة الانتداب البريطانية، والحركة الصهيونية، وقاعدتها المادية، دولة الاستعمار الإسرائيلية، لكن لم يحدث في أيّ منعطف سياسي انقسام أفقي وعامودي مثلما أحدثه الانقلاب الإخواني الإجرامي.
ولم يكن حدوث الانقلاب الحمساوي ناتجًا عن ردّة فعل آنية، أو لاعتبارات تنظيمية بحتة، أو نتاج الرغبة في تقاسم كعكة سلطة الحكم، كما حاول، وتحاول بعض القوى إلباس الانقلاب ذلك الثوب الباهت، والواهي، والرث؛ لخشيتها من تشخيص موضوعي وعِلمي لوظيفة الانقلاب، ولجريمة فرع جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، ونتيجة عقم وإفلاس فكري وسياسي. الانقلاب تمَّ الإعداد له بشكل مسبق، ووفق هدف وأجندة واضحة المعالم، ولحساب ومصالح العدو الإسرائيلي والأميركي وقوى الثورة المضادة في الوطن العربي والإقليم. وكان الانقلاب بمثابة رأس حربة لما أُطلِق عليه "ربيع الثورات العربية"، وقاطرة عمليات التخريب في داخل دول وشعوب الأمة العربية.
ورغم أنَّ الانقلاب فشل في تحقيق أهدافه الإستراتيجية المتمثّلة بشطب وتصفية القضية الفلسطينية، فإنَّه لم يفشل تكتيكيًّا، لأنّه نجح في تمزيق جناحَي الوطن، وتمكّنت ميليشيات حركة "حماس" من فرض سيطرتها الكاملة على محافظات الجنوب الفلسطيني، وهدَّد جديًّا مؤسسات النظام السياسي الديمقراطي التعددي، وعطَّل كليًّا دور المؤسسة التشريعية، إلى أن حُلَّت مؤخّرًا، إلّا أنّه (الانقلاب وقيادته) فشل في ضرب مكانة ودور منظمة التحرير الفلسطينية، الممثِّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وسقط في نفي الهُويّة والشخصية الوطنية، ولم يتمكّن من تشكيل نظام سياسي على شاكلته الإخوانية، فظلّ وليدًا مشوّهًا وكسيحًا. وأكثر من ذلك، لم يتمكّن من استقطاب الشارع الفلسطيني لصالح خياره التآمري، وانفضحت مراميه في أوساط الجماهير الفلسطينية في قطاع غزة بشكل خاص والشعب الفلسطيني بشكل عام، وحتى في الأوساط العربية والعالمية تهاوت صورته الدونكيشوتية، وبدا عاريًا، ليس هذا فحسب، بل إنّه بات عبئًا وثقلاً زائدًا على كاهل الشعب والوطن ومن تبنوه.
ورغم أنّ قياداته المتعاقبة حاولت تعويمه عبر التساوق مع (إسرائيل) مرة، وعبر المراهنة على بعض الدول العربية، وبالاتّكاء على بعض دول الإقليم الإسلاموية (التركية والإيرانية على حد سواء)، والسعي لمدِّ الجسور مع عدد من الدول الأوروبية (أمنيًّا)، غير أنّه فشل فشلاً ذريعًا في تشكيل رافعة للإخوان المسلمين ولأسيادهم في الغرب.
ومع ظهور صفقة القرن المشؤومة حاول قادته، أن يجدوا لهم مكانًا في زواياها المظلمة، لكنّهم فشلوا، لأنَّ القيادة الشرعية بقيادة محمود عبّاس، قالت بالبنط العريض لا للصفقة الترامبية، الأمر الذي وضع الإدارة الأميركية وحلفائها في الساحة العربية والإقليمية في وضع حرج، ممّا أفقدهم جميعًا القدرة على المناورة، والالتفاف على خيار الشعب وقيادة منظمة التحرير. وهو ما دعا قيادة الانقلاب الحمساوية، وحتى التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين لإصدار بيانات رافضة للصفقة خشية افتضاح أمرهم أكثر فأكثر.
وطالما قيادة الانقلاب تدَّعي أنَّها ضد صفقة القرن، وضدَّ فصل الضفة عن غزة، وضد (إسرائيل) الاستعمارية، وتريد وتعمل من أجل خيار المقاومة، إذًا عليها أوّلاً وثانيًا... وعاشرًا أن تعود لجادة الوحدة الوطنية، وأن تسقط فورًا ودون تردُّد خيار الانقلاب، وتعيد الاعتبار لدور الشرعية في قطاع غزة من خلال التطبيق الفوري لما نص عليه اتفاق تشرين أول/ أكتوبر 2017، وتعمل على أرضية الشراكة السياسية الكاملة مع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وتفتح الباب واسعًا أمام إجراء انتخابات برلمانية (المجلس التأسيسي أو برلمان دولة فلسطين) وتليها انتخابات رئاسية لضخ الدماء في جسد النظام السياسي الفلسطيني، وفي السياق تفعيل مؤسسات المنظمة (المجلسين الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية).
دون الوحدة الوطنية، وطي صفحة الانقلاب الأسود، لا يمكن تصديق كلمة واحدة من كل الشعارات والمواقف المعلنة. لأنَّ شرط مواجهة صفقة القرن المشؤومة والتحديات الإسرائيلية يقوم على قاعدة ارتكاز أساسية، عنوانها الوحدة الوطنية، ولا يمكن للوحدة أنَّ تقوم في ظل الانقلاب الأسود. فهل وصلت الرسالة لقادة حركة "حماس"، أم ما زال لديهم أمل ورهان على دور مخصيّ في إمارة عبثية في غزة؟