عندما اتصل الأخ الإعلامي المعروف أدهم مناصرة من كبار مذيعي إذاعة راية الرائدة في فلسطين، والتي يرأسها الأخ والزميل بسام ولويل، كان اتصاله لترتيب اللقاء معي حول موضوع شديد الحساسية وهو موضوع (التطبيع)، ولأنَّه موضوع شائك وحساس فهو هام بالفعل، ويشغل الرأي العام الوطني والعربي، فوافقت على المواجهة مع الطرف الآخر في ألمانيا، وضمن ترتيب مشترك مع إذاعة ألمانيا DW.
كنت أظن للوهلة الأولى أن المحاور من البعيد من المتشددين ضد السلطة الوطنية الفلسطينية، بمعنى أنهم يرفضون كل ما يصدر عنها، بما فيه العلاقات الناشئة عن الاتفاقيات، وهو شأن الكثيرين المتشددين بالخارج الذين لا يرون من السلطة ومن الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر إلّا مجرد مطبعين ومستسلمين لاتصالهم مع الإسرائيليين بشكل أو بآخر، ولكن المفاجأة أنه لم يكن كذلك! بل على العكس تماما، أي كان منبطحا مستسلما إلى أبعد الحدود فبدونا نحن المتشددين.
الهامش الصغير جدا الذي يحكم علاقة الفلسطينيين في الوطن سواء في أرض الدولة الفلسطينية القادمة أو على أرض فلسطين التي يقام عليها "إسرائيل" حاليا هو هامش استطاع المناضلون الفلسطينيون التعامل معه بحذق، وبحنكة السائر في حقل ألغام كما كان يردد الراحل الكبير ياسر عرفات، بغرض تحقيق الحفاظ على الوجود والبقاء والصمود على أرضنا.
أن تقع تحت طائلة احتلال مباشر كما الحال بالضفة وغزة، أو تحت وطأة نظام عنصري (أبارتهايدي) متوحش موجه ضد مواطني (الدولة) من الفلسطينيين لا يترك هامشا كبيرا، لذلك يأتي اكتشاف هذه المعادلة الصعبة للتعامل بلا تطبيع عبر نضال تم تعميده بالدم والعرق وفتح الآفاق.
هذا الهامش الذي يجبر الفلسطيني شاء أم أبى أن يتواصل مع الإسرائيلي لا يجوز بتاتا اعتباره ذريعة من قبل العرب الذين لا يقعون تحت وطأة الاحتلال المباشر أو غير المباشر، ليتحمل مسؤولية استتباعهما للفكر الصهيوني وتبنيهم بشكل مذهل للرواية الإسرائيلية.
البعض من العرب، ومنهم محدّثي على الخط الآخر كان من متبني الفكر الإسرائيلي أو الرواية حتى بالمصطلحات وبشكل سافر، إلى الدرجة التي يسخّف فيها النضال الفلسطيني، ويشيد بالحياة (الديمقراطية) الإسرائيلية؟! في عملية غسيل دماغ مركّبة يغفل من خلالها متعمدا حجم الشهداء والأسرى وسنوات النضال ومتناسيا معها، تواصل العدوان والحرب على فلسطين بالقتال اليومي والمستوطنات (المستعمرات) والتمييز العنصري والاستعداء الديني الذي تمارسه السلطة الإسرائيلية.
الأخ أدهم مناصرة الإعلامي الجميل فاجأني مرتين الأولى بطبيعة الضيف المنبطحة، والثانية بموقف مناصرة الوطني القيمي. في المفاجأة الأولى فإن المحاور على الطرف الآخر لم يستطيع أن يفهم معنى تعريفنا للتطبيع، وتفريقي له عن الاتصال المؤسسي المبرمج والمحدد، وعن الاستسلام، فنحن لسنا في حالة حرب ولا سلم، لذا نحن لسنا في وضع استسلام وتهالك وانكسار ويأس فظيع كما بدا من الضيف!؟ وإنما في حالة صراع دائم لنا في خضمه.
وكانت المفاجأة الثانية تدخّل أدهم مناصرة متجاوزا دور المذيع (المحايد) حيث لا حياد في القيم وأسس القضية، فكان لنا أن نبدع في أشكال النضال لا أن (نبدع) في اجتراح وسائل الانسحاق أمام الآخر .
نظر الطرف العربي المقابل لي بالحوار الإذاعي للدولة الإسرائيلية نظرة غواية وانبهار مادحًا ديمقراطيتها!؟ ولقاءاته مع الخارجية الإسرائيلية؟! التي دعته لزيارة بلادنا، فأغرم بالإسرائيليين ! ورأى من فلسطين ما اسماه (الحياة الطبيعية)؟! كما أشاد بمطار (بن غور يون) كما أسماه وهو مطار اللد، وسخر من عرب "إسرائيل" كما أسماهم، وهم الفلسطينيون العرب في الداخل الفلسطيني، واعتبر أسلحة النضال الفلسطينية من مقاطعة أو رفض للتطبيع العربي (كلام الستينات)؟! وسخر من قيم إسلامية، وطالب الفلسطينيين بلا خجل أن (يتخلوا عن العرب) نهائيا!؟ و(يجلسوا) مع الإسرائيليين في تسطيح مذهل للقضية الفلسطينية، رغم أنه و يا للعجب دبلوماسي عربي سابق كما تم تعريفه.
عموما كانت المفاجأة في طبيعة الضيف العربي المنسحقة تحت وطأة الرواية الصهيونية، وبالمقابل المعاكس في الأخ أدهم مناصرة الذي حطّم أبواب الصمت الذي يُلزم المذيع أن يكون محايدا وقد أصاب، ففي القضية القومية والوطنية والثورية يكون الانحياز لها هو قمة الموضوعية والمهنية.
لا أريد أن أسرد في هذا المقال مجمل ردودي الصلبة والواضحة على الرجل كما أعتقد، ولا أريد الخوض بهذا المقال في تعريفي للصراع أو للتطبيع أو للمقاطعة والعلاقات بينهما وتفريقي ما بين حالات الحرب والسلام والصراع ووسائل النضال ما سأحاول ان أشبعه في دراسة منفصلة.
ولكن كان من المهم أن اختم اللقاء مع هذا الشخص بالعبارات التالية التي طعنت فيها فكر الانهيار والانسحاق والاستسلام حيث قلت له خاتما المقابلة: إنني وباسم حركة فتح أوجه دعوة لكافة المفكرين والمثقفين والسياسيين العرب (حملة الجوازات الأجنبية) ليتفضلوا مع المتضامنين الأجانب ليتظاهروا ضد الاحتلال في كفر قدوم أو النبي صالح أو شارع الشهداء في الخليل وغيرها من أماكن الاشتباك بدلا من أن يمضوا (زياراتهم لإسرائيل) في أماكن اللهو أو مسرح تجرع السموم وتبني روايتهم.
ولأقول موجها كلامي له ولأمثاله: نحن لا نحتاج نصائح من القافزين في حضن الاحتلال، فنحن أمة عربية ذات قيم شاء من شاء وأبى من أبى.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها