مضت ثلاثة عشر عاماً على رحيل القائد الرمز ياسر عرفات، أرغموه على الترجل عن المشهد، وضعوا له السم، ومن تكفلوا بعلاجه في فرنسا لم يجدوا له الترياق المناسب لتعافيه من عملية القتل العمد وعن سابق تصميم وإصرار من قبل قادة دولة التطهير العرقي الإسرائيلية. كان لفقده التراجيدي ووداعه الاستثنائي في ثلاثة عواصم أوروبية  (باريس) وعربية (القاهرة) وفلسطين (رام الله العاصمة المؤقتة) دلالة عميقة على فرادة الزعيم الفلسطيني الخالد.

كان أبو عمار مختلفاً ومتميزاً بما له، وبما عليه. لم يكن صنو أحد من مجايليه، ولم يكن نسخة كربونية عن أي زعيم آخر في العالم. كان نسيج ذاته ومعاييره ودهائه وفطنته، كان سيد الميكافيلية في ريادته وقيادته لحركة التحرر الوطني. فكان لينين، وستالين، وماو تسي تونغ، وجمال عبد الناصر، ومانديلا، وفيدل كاسترو، وهوشي، وديغول، وجياب، وعمر المختار، وكان نموذجا للخليفة عمر بن الخطاب، والخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز، وغيرهم من قادة الأمة والشعب والعالم. كان امتداداً لكل عظماء العالم على مر العصور، وفي نفس الوقت، كان غيرهم جميعاً، تعلم ونهل منهم، وسبقهم أو تساوى وإياهم في ميدان القيادة وفن إدارة الصراع في ظل أعقد الظروف.

كل من عمل أو تعاون مع الرئيس الرمز عرفات خلص للنتيجة التالية: تختلف أو تتفق معه لا يمكن إلا أن تحبه أو تحترمه، ولكن لا تكرهه أو تناصبه العداء، حتى إخوانه ورفاقه في حركة "فتح" وفصائل العمل الوطني وحتى قوى حركة التحرر العربية والعالمية الذين خاصموه واختلفوا معه على آليات إدارة العمل الداخلي والوطني والأممي، احترموه وأحبوه. وكما قال الحكيم حبش، رحمة الله عليه "نختلف مع أبو عمار، ولا نختلف عليه" كقائد ورمز للوطنية الفلسطينية. أعداء الختيار من الإسرائيليين والأميركيين وبعض العرب ومن لف لفهم، هم من كرهوا وتمنوا الموت ألف مرة لياسر عرفات. وشارون وأركان قيادته الاستعمارية وبضوء أخضر أميركي هم من دس السم لرمز الوطنية الفلسطينية وقتلوه، لأنه كان شوكة في حلق مشاريعهم التصفوية للقضية الفلسطينية.

رحل الزعيم الفلسطيني قبل ثلاثة عشر عاماً، ترك المسرح في أيد أمينة لخليفة مؤتمن على القضية وثوابتها الوطنية، لكن عرفات لم يغادر ذاكرتنا ولا تفاصيل حياتنا ولا أيامنا بمرها وحلوها. بقي معنا وفينا الشاهد الحي على كفاحنا الوطني. وبقيت نواميسه وضوابطه وثوابته ثوابتنا حاضرة في جلساتنا وحواراتنا، بقيت مرشداً وبوصلة لنضالنا الوطني.

وإذا دقق المرء بموضوعية في المشهد الفتحاوي والفلسطيني العام، يلحظ أن عرفات حاضر بقوة في تفاصيلنا الصغيرة وعناويننا الكبيرة، في ترحالنا وإقامتنا، في أحلامنا ويقظتنا، حتى بات أكثر تدخلاً في مرتكزات قيمنا وسلوكياتنا. وكلما تحدث احد ما حول مسلك أو عن حدث ما، تجده يستحضر نموذج الراحل الخالد أبو عمار. وهو ما يدلل على أن الزعيم الفلسطيني السابق لم يكن زعيماً عادياً، إنما هو قائد تاريخي بخصال الأبطال التراجيديين المأساويين، الذين رحلوا ولم يرحلوا. غادروا مواقعهم في مسرح الحياة الدنيا، لكنهم ظلوا محافظين على إرثهم وقوة حضورهم بإرادة وخيار شعوبهم، لما لهم من خصال عظيمة. وهذا هو سر الخالد ياسر عرفات.

وعظمة أبو عمار الآن تتجلى في بكاء من اختلفوا معه، وتعجلوا رحيله، ومن تخلوا عنه أو أداروا الظهر له. لكنها سِنةْ الحياة، لا أحد منا دائم، الدوام لله، والرحمة على سيد الشهداء الراحل الرمز أبو عمار، ولشعبنا وقضيتنا وثوابتنا الوطنية وقيادتنا الشرعية البقاء.