كانت القدس أُمَّ البدايات الحزينة والمبهجة، وأُمَّ النهايات المكابدة. وفي القدس تتجلَّى العزائم، وتُركِّع الجبال وتطير الحمامات، وترقد في القدس الحيوات حائرة على الأعراف. وفي مسرى محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء يولد النّور الفائض، ويصعد المرابطون على جبل النضال، ولا يتركونه أبدًا.
من بوابات القدس القديمة انطلقت الجيوش تدفع العدوانات، وعبرها دخل ملايين المصلين ليُحيوا إسراء سيد الخلق ومعراجه، ففي القدس تكمن روح العربي والمسلم والمسيحي والفلسطيني فلا يُقبَل من الغرباء مسار الكذب القصير، ولا تقبل سياق الأكاذيب التي لا تنقطع والتي تراكمت حديثًا منذ وضع الظّل الثقيل قدمه على أرض الطهر في فلسطين.
وفي سياق الانشغالات اليومية المهمّة بالاعتداءات الصهيونية المتكرِّرة على أرض فلسطين، ونخر عظامنا بالمستعمرات، وفي القدس وكلِّ شارع ومدينة وقرية وخربة، تبرز قضايا وتختفي أخرى أو تتوارى مؤقّتًا، فتفقِد أهميّتهما على أهميّتها، ومن ذلك ما تحاول السلطات الاحتلالية هذه الأيام فعله في إطار الاعتداء المستمر على القدس سكانيًّا وجغرافيًّا، وفي سياق الحدث مؤخّرًا المتمثِّل بالعمل على فرض أمرٍ واقعٍ جديد بالقدس من خلال البوابات، ومن خلال ترويج الصيغة الخطرة أنَّ القدس والأقصى مُتاحٌ لكل الأديان؟
سأقصر الحديث هنا على نقطة أنَّ الأقصى متاح لكلِّ الأديان لما فيها من خطورة فائقة، فلقد وردت العبارة منسوبةً لرئيس الوزراء الصهيوني "نتنياهو" الذي يقوم يوميًّا بإشعال فكرة الحرب الدينية المبنية على أوهامه التوراتية، إذ أوردت الإذاعة الإسرائيلية في 20/7/2017 بما معناه أنَّ "الحرم القدسي الشريف" (يجب أن يكون متاحًا للأديان الثلاثة)!
ولا يتوقَّف الأمر عند هذا الحد، بل إنَّ سياق نصب مركّبات ما يسمونه "الهيكل" في داخل المسجد قد تكون جاهزةً عند أول بادرة تراخي فلسطيني أو عربي أو إسلامي، وبداية التراخي تبدأ بسقوط الفهم والوعي، وترداد مقولات الإسرائيلي الملفّقة والمخادعة، ولا سيما وعشرات المنظمات الصهيونية المتطرفة تنتشر في كل فلسطين، ومنها بالقدس التي تدعو لهدم مسجدنا، وتملكه لبناء أوهامهم مكانه.
هناك مجموعة من النقاط حول هذا الموضوع تحديدًا يجب أن تستقرَّ في الوعي الإسلامي والعربي بكل وضوح.
أولاً: لا نحبِّذ بل لنلغي استخدام مصطلح (الحرم القدسي الشريف) أبدًا، لأنَّه يعطي معنى مُحايد، بمعنى أنه قد يكون حرمًا لأي ديانة، ما أجاز نتنياهو لنفسه أن يقوله.
ثانيًا: يجب الفهم جيدا أن ما يُطلقون عليه زورًا وكذبًا "جبل الهيكل"، أو ما يُستخدَم من مسمّى "الحرم القدسي الشريف"، هو بالحقيقة المسجد الأقصى المبارك، وهو بكلِّ وضوح كلُّ ما دار حوله السور من مساجدَ ومبانٍ وساحاتٍ، والأسوار ذاتها بمساحة 144 دونم أو 144 ألف متر مربع.
ثالثًا: ليتوقَّف العرب والمسلمون عن القول إنَّ المسجد القبلي (وقبل ذلك قبة الصخرة) هو فقط المسجد الأقصى، وهو كلام عارٍ عن الصحة، ولا يجوز مُطلقًا.
رابعًا: وللدلالة وكمثال، فإنَّ القول أنَّ الكعبة المشرفة ومحيطها القريب يمثِّلان فقط المسجد أوالحرم المكي لا يصح، بل الحقيقة أنَّ الحرم المكي يشمل كل الاتساع والساحات، والحال مثله في المسجد النبوي، وكل المساجد إذ لا تنفصل المباني والباحات والأسوار أبدًا.
خامسًا: نحن بكل وضوح لدينا المسجد الأقصى وهو ليس "متاحًا لكلِّ الديانات" كما يقول نتنياهو مُخادعًا، وليس تحته ولا بقربه ولا على بعد 1000 كيلومتر منه ما يسمونه "الهيكل" فكفانا انخداعًا بالروايات التوراتية، وكفانا تردادًا لمقولات لا تصح لا تاريخيًّا ولا آثاريًّا، ولا تمتُ للحقيقة القانونية بِصِلة.
سادسًا: إنَّ القول أنَّ (الحرم القدسي الشريف يجب أن يكون متاحًا لكل الديانات)! هو المسمار الكبير في حرمة مسجدنا، إذ سيصار لنصب معدات ومنشآت تؤهِّل الإسرائيلي للتقسيم على اعتباره أنَّ المسجد الأقصى هو المسجد القِبْلي (المستطيل الشكل) لذا تصبح الباحات قابلةً لنصب أُسُس ما يسمونه "الهيكل" الخرافي، وكما فعلوا في الحرم الإبراهيمي بالخليل.
سابعًا: إنَّ تمرير المصطلح بالوعي مقدمة لتشريع ما هو قائم. فالاقتحامات الصهيونية اليومية للمسجد الأقصى (المسجد الأقصى يقع بحدود دولة فلسطين، وتحت الاحتلال الإسرائيلي الآن) تتسق مع القول الإسرائيلي أن "الحرم" (هو الأقصى) يجب أن يكون متاحًا لليهود والمسيحيين والمسلمين!
ثامنًا: المسجد الأقصى المبارك بكلِّ مكوّناته وأسواره ومساحته الكاملة وقف إسلامي خالص لا جدال فيه عالمي، وليس متاحًا لكلِّ الأديان، ولا نزاع لنا فيه مع الأديان مُطلقًا وهي لا تنازعنا إيّاه، وهذا يتوافق مع موقفنا التاريخي والقانوني والسياسي السليم.
الموقف العربي الفلسطيني تجاه القدس والمسجد الأقصى المبارك وثَّقناه بوضوح في كلِّ المؤسسات الدولية، ومازال الوعي العربي والإسلامي تائهًا بين الحقيقة والخدع والأكاذيب، ومحلِّقًا في غياهب روايات نتنياهو التوراتية عن القدس والأقصى وفلسطين، والتي ما هي إلا خُرافات وأساطير وأحلام.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها