تشد حلوة ابو راس (74 عاما) على زنارها كلما رفعت ظهرها المنحني لحصاد سنابل القمح في سهول بلدة الساوية جنوب نابلس، وترمي بنظرها بعد ان تضع يدها على جبينها للتغلب على اشعة الشمس، وثم تعود ثانية الى الجذور وتحاول ان تلملم ما تبقى من وراء المنجل الذي تغني له "منجلي يا بو الخراخش ...ياللي في الزرع طافش".
حلوة ذات البشرة الحنطية "القمحية"، ترى بأن ليس من اسمها نصيب بالوصف، اعتادت على النهوض باكرا مع خيوط الشمس الاولى، بعد ان تؤدي صلاة الفجر، تذهب لتنظيف حظيرة الاغنام والدواب، ثم تحلب الاغنام لتصنع منها اللبن والجبن، وتكون قد حضرت نفسها لخبز عجين قمح ارضها في الطابون الذي ترى فيه مطبخها الصغير.
وتحضر حلوة وجبة الافطار المفضلة للعائلة من جبنة ولبنة والبيض مع كأس الشاي المحلى، فهي لا تؤمن ابدا بالطعام والوجبات السريعة، ولا تريد ان تعلم عنها شيئا، وتفضل من الحلويات الحلبة المعدة في الطابون، كما تقول.
تمسك حلوة المنجل بطريقة مائلة لتنظف سنابل القمح من التراب العالق في جذروها تمهيدا لدرسه -اي فصل الحبوب عن السُّنْبلة أو عن القشِّ- وترشد نجلها كي لا يترك خلفه من خيرات القمح، بعد ان مسحت بظهر كفها عرقها الذي يلمع على وجهها القمحي كلما ادارته للشمس، وترمي ما بيدها بعد ان تربطه وتشكله لصبح "غمر" ايذانا بنقله الى البيدر امام منزلها.
ولا يزال بعض الفلاحين يحصدون قمحهم بالطريقة اليدوية وبواسطة المنجل، الذي اصبح يواجه خطر الاندثار مع التطور التكنولوجي، وهو ما انعكس ايضا على اندثار تلك البيادر التي كانت تجمع فيها محاصيل القمح والحبوب، لدرسها على بواسطة الدواب.
وفي ايام لا يوجد فيها الحصاد او موسم الزيتون تقسم وقتها لغربلة القمح او جرشه على الجاروشة، اضافة الى صناعة المكانس، فيما تقضي جل وقتها في الارض والاعتناء بها فمنذ صغرها تربطها قصة عشق معها.
حلوة لا تترك مناسبة إلا وتستغلها لتعلم أبناءها السبعة، حب الأرض وعشقها، فمنهم من يساعد في حصاد محصول القمح وفلاحة الارض حتى قبل ذهابه الى عمله في احدى المؤسسات الحكومية.
وعرفات الابن الاوسط لا يترك مناسبة إلا ويداعب والداته فيها، يصرخ عليها بصوت عال، لترفع رأسها ويلتقط صور "سيلفي" معها وهي تحمل ذلك المنجل، في الصورة تجمع بين وجه كنعانية بثوبها الفلاحي، تحمل تراث آلاف السنين، وبين ثورة القرن الواحد والعشرين والتطور التكنولوجي والـ"سمارت فون".
وتعيش حلوة الى جانب زوجها المحب احمد سعيد ابو راس (76 عاما) منذ خمسة عقود، فهي المظلة التي يتجمع تحتها العائلة، ولا تنسى ذلك اليوم الذي جاء اليها في زيارته الاولى بعد عقد قرانه عليها فتقول" هربت الى سطح المنزل كي لا يراني".
بعد ان تصبح الشمس تعلو شئيا فشيئا فوق رؤوس "الحصادة"، ترفع حلوة رأسها وتقول "شايف يا خالتي هاي الارض اللي مبني عليها المدرسة في مستوطنة "عيليه" قبال عينك، هاي الارض النا، هاي خيرات الزيتون كلها النا، اخذوها يا خالتي حرمونا منها."
حلوة والارض حكاية روح ارتبطت بسنابل قمح، بحبة زيتون، بذرة تراب جبلت بعرقها، فلكل منهما حكاية
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها