خاص مجلة القدس العدد 325 نيسان 2016
الجولان هو إحدى العُقد الاستراتيجية في بلاد الشام؛ فهو يربط سورية وفلسطين ولبنان والأردن برباط جغرافي محكم، ولا سيما في مسألة المياه التي تتساقط من جبل الشيخ نحو نهر اليرموك وروافده، ثم تمر ببحيرة طبرية لتخرج منها نحو البحر الميت. والجولان نافذة الشام الى فلسطين؛ فعلى أرضه وقعت معركة اليرموك في سنة 636م التي دان الشام فيها للفاتحين العرب. وفي نواحيه خطب عمر بن الخطاب خطبته المشهورة قبيل مسيره الى القدس. وفي جواره وقعت معركة حطين في سنة 1187 التي مهدت الأسباب لرحيل الفرنجة عن فلسطين. والمعروف حتى اليوم أن هناك عدة قرى فلسطينية على تخوم الجولان لاقت ما لاقاه أهل الجولان بعد الاحتلال في سنة 1967 مثل كراد الغنامة وكراد البقارة ومنصورة الخيط ويردا والحمة والتوافيق والنقيب والسمرا، والسبب هو الترابط البشري والجغرافي بين الجولان وفلسطين. وكانت هذه القرى تقع في المنطقة المجردة من السلاح على طول خط الهدنة السورية – الاسرائيلية الذي ارتسم غداة وقف القتال في سنة 1948 لكن الجيش الاسرائيلي تمكن من إرغام سكان هذه القرى على الرحيل التدريجي الى الجولان تحت وطأة الاشتباكات الدائمة بين الجيش السوري والجيش الاسرائيلي منذ سنة 1951 فصاعداً.
الجديد اليوم أن مجلس الوزراء الاسرائيلي، وفي خطوة استعراضية، عقد جلسة في الجولان في 17/4/2016، ليعلن على لسان بنيامين نتنياهو ما يلي: " ستبقى هضبة الجولان في أيدي اسرائيل الى الأبد، ولن ننسحب منها على الاطلاق. وقد آن الأوان كي يعترف المجتمع الدولي بحقيقتين: الأولى أن الحدود لن تتغير، والثانية أن الأوان قد حان، بعد خمسين عاماً كي يعترف المجتمع الدولي أخيراً بأن هضبة الجولان ستبقى الى الأبد تحت السيادة الاسرائيلية".
يكشف هذا الموقف الجديد روح اللصوصية لدى حكومة اليمين الاسرائيلية برئاسة نتنياهو، ويعكس رهاناً انتهازياً على تفكك سورية الى وحدات طائفية وإثنية، الأمر الذي يجعله قادراً على القول إنه لن ينسحب من الضفة الغربية أيضاً بعد أن مضى خمسون عاماً على احتلالها. وعلى هذا المنوال هناك تصريحات متطايرة لوزير الأمن الإسرائيلي موشي يعلون عن أن سورية لن تعود موحدة أياً تكن التسوية التي سيتم التوصل اليها لوقف الحرب ما يجعل اسرائيل لاعباً في تقرير مصير سورية.
لن تعود سورية الى ما كانت عليه؟ هذا صحيح على الأرجح. أما أنها لن تعود موحدة فهذا مجرد رهان يعكس أمنيات الاسرائيليين، ولا يعكس وقائع الأحوال الجارية. والانتهازية الاسرائيلية كانت دائماً معمدة بالنار وكثيراً ما سعت للإستفادة من الحوادث الدموية في سورية لانتزاع نوع من القبول الدولي باستمرار بقائها في الجولان. غير أن انتهاز ضعف العرب لتثبيت وقائع سياسية ذات طابع قومي، من شأنه أن يصبح سابقة خطيرة لتثبيت بقاء اسرائيل في الضفة الغربية أيضاً، ونسيان قضايا اللاجئين وحق العودة بحجة مرور الزمن. وتريد حكومة نتنياهو، بهذه التصريحات، قطع الطريق على أي مسار سياسي قد يؤدي الى تسوية ما في سورية أو في فلسطين، لأن أي تسوية ستعني، عاجلاً أم آجلاً، الانسحاب من الضفة الغربية حتى ولو بتعديلات حدودية متفق عليها.
وديعة رابين ووثيقة لاودر
إن تصريح نتنياهو في "شأن البقاء الأبدي" في الجولان هو الحقيقة المضمرة في عقل الاسرائيليين. لكن، في عيد الجلاء السوري أي في 17/4/2016، وبعد مئة سنة على اتفاقات سايكس – بيكو، ظهر ما هو مضمر الى العلن ليذكِّر العرب جميعهم كيف تقسّمت سوريا التاريخية مراراً في العصر الحديث، فرُسمت على أنقاضها أربعة كيانات جديدة هي لبنان والأردن وفلسطين، فضلاً عما بقي منها والذي اتخذ اسم "الجمهورية العربية السورية". وسُلخ عنها لواء الاسكندرون وكيليكيا ونصف ولاية حلب. وحتى "الجمهورية العربية السورية" جعلها الفرنسيون في سنة 1920، بعد معركة ميسلون العظيمة، أربع دول طائفية. وهذه الإجراءات اللئيمة كلها كانت تهدف الى انشاء دولة لليهود في فلسطين، واضعاف مكانة سوريا التاريخية وتفتيتها، لأن سوريا الواحدة هي الجدار الذي يمنع قيام دولة لليهود في المنطقة، لذلك كان لا بد من تحطيمه. وهذا ما جرى حقاً في سنة 1916 ( سايكس – بيكو)، وفي سنة 1920 (تقسيم سورية الى دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين ودولة الدروز وسنجق الجزيرة)، وفي سنة 1939 (اقتطاع لواء الاسكندرون)، وما برح هذا المنوال جارياً حتى اليوم.
مهما يكن الأمر، فإن بنيامين نتنياهو هو الذي اشترط اعتراف الفلسطينيين بيهودية إسرائيل كشرط مسبق وتعجيزي في المفاوضات، يمارس كذباً مفضوحاً حين يصرح بأن اسرائيل لن تنسحب من الجولان الى الأبد، وهو يعرف تماماً أن الأمور مرهونة بموازين القوى؛ فما دام الفلسطينيون متروكين وحدهم، وما دام السوريون صاروا على ما هم عليه من الهوان، فهو يستطيع أن يعربد كما يحلو له. لكن، في ما لو تغير الاستاتيكو الحالي، فسيغير نتنياهو موقفه بالتأكيد غير آبه بمواقفه السابقة. وعلى سبيل المثال، فقد أقدم داني ياتوم الذي كان سكرتيراً عسكرياً ليتسحاق رابين ورئيساً للموساد في ما بعد، على تسريب وثيقة رون لاودر في سنة 2000 التي فضح فيها ادعاءات نتنياهو. وهذه الوثيقة التي صاغها الثري الأميركي رون لاودر الذي أدار مفاوضات غير مباشرة بين نتنياهو والرئيس حافظ الأسد في عام 1998، تضمنت تعهداً من نتنياهو بالانسحاب من هضبة الجولان كلها حتى حدود الرابع من حزيران 1967 في مقابل الموافقة السورية على ترتيبات امنية ملائمة ومنها وضع محطة الانذار في جبل الشيخ تحت إدارة أميركية – فرنسية مشتركة لمدة عشر سنوات.
أنكر نتنياهو هذه الوثيقة وأمعن في إنكارها إلى ان نشرها داني ياتوم ، فكأنه ألقمه حجراً.والأمر نفسه جرى مع ما يسمى "وديعة رابين" ففي 24/5/1995 توصل السوريون والاسرائيليون الى وثيقة غير ملزمةnews paper. لكن، مع بدء المفاضات بين العماد حكمة الشهابي ورئيس أركان الجيش الاسرائيلي أمنون ليبكين شاحك أرسل الرئيس بيل كلينتون الى الرئيس الاسد رسالة في 6/6/1995 جاء فيها ما يلي: " كما سبق أن قلت لك في دمشق ولوزير خارجيتك، فإنني أبلغك أنه يوجد في جيبي التزام من رئيس الوزراء رابين بالانسحاب الى حدود الرابع من حزيران 1967 في إطار اتفاق سلام كامل وآمن".
لم يعرف أحد أي شيء عن هذه الوديعة الا إيتمار رابينوفيتش. لكن رابين قُتل، وعندما تسلم شمعون بيريز رئاسة الحكومة خلفاً لرابين أبلغ كلينتون اليه أمر هذه الوديعة فوافق عليها من دون تردد. وهذه الوديعة عبارة عن تعهد قدمه يتسحاق رابين الى وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر في حزيران 1994. وكما هو معروف في الدول كلها فإن الحكم هو استمرار، ولا يجوز لأي رئيس جديد نقض ما تعهد به الرئيس القديم، أكان هذا التعهد اتفاقات او بروتوكولات أو رسائل. لكن بنيامين نتنياهو يتصرف كرئيس عصابة ينكر وثيقة رون لاورد، ويرفض وديعة رابين، ويعرض التفاوض مع السوريين، ويعلن انه لن ينسحب من الجولان. فعلامَ يتفاوض إذاً؟ وهذه البهلوانية هي ما يمارسها في فلسطين ايضاً؛ فهو يريد استئناف المفاوضات المباشرة مع السلطة الوطنية الفلسطينية، ويزعم أنه مستعد للتسوية بين الطرفين، وفي الوقت نفسه يشترط الاعتراف الفلسطيني بيهودية دولة اسرائيل، ويرفض تفكيك المستوطنات والانسحاب من القدس الشرقية وحل مشكلة اللاجئين وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة في نهاية المطاف.
إن هذه "الزعبرة" السياسية ستدوم ما دامت احوال الفلسطينيين والعرب على ما علمتم وذقتم. لكن مَن يضمن نتنياهو ولليمين الاسرائيلي دوام هذه الحال؟
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها