مع تعاظم الآثار التدميرية لممارسات حكومة الاحتلال الاسرائيلي في وضع المزيد من العقبات والعراقيل امام حل الدولتين, وامعانها في توسيع الاستيطان ومصادرة الاراضي لخلق "وقائع على الارض" لمصلحة المشروع الاستيطاني في الاراضي المحتلة عام 1967.

 ومع تواصل انسداد الافق السياسي واستمرار الانشغال الاقليمي والدولي في الحروب الاهلية ومواجهة الارهاب ما يؤدي الى انحسار الاهتمام الدولي بالتصدي لتحديات التوصل الى انهاء الاحتلال الاسرائيلي لاراضينا الفلسطينية وانجاز حل الدولتين, يفاجئنا هيرتزوج, قائد حزب العمل الاسرائيلي ورئيس كتلة الاتحاد الصهيوني في الكنيست, برسائل ومواقف ملتبسة ومتناقضة لا تمثل في السياسة الاسرائيلية, "البديل" لمواقف حكومة نتنياهو، بل هي تصب في خدمتها.

ففي الوقت الذي تسعى فيه حكومة اليمين الاسرائيلي وحلفاؤها الى زعزعة القناعة الدولية بحل الدولتين, اعلن هيرتزوج, وهو الممثل المفترض للبديل السياسي والامني للمركز الوسطي في السياسة الاسرائيلية, عن قناعته الجديدة بـ"عدم واقعية" حل الدولتين, متبنيا بذلك جوهر موقف حكومة اليمين الاسرائيلي التي يفترض انه ومعسكره السياسي بديل لها, معتبرا ان ما يمكن السعي الى تحقيقه في المستقبل المنظور, هو "ترتيبات امنية تؤدي الى الانفصال" الاحادي الجانب, مقتفيا بذلك آثار رئيس الوزراء الاسبق شارون وسائرا على خطاه, بدلا من ان يستلهم من منطق الأحداث وطبيعة الصراع ومن تراث حزب العمل ما يساهم في الدفع باتجاه التمسك بحل الدولتين وانهاء الاحتلال, كما تمثل في النماذج التي قدمها رابين وغيره من قيادات سابقة لحزب العمل الاسرائيلي.

وفي خطوة لاحقة, قدم هيرتزوج مؤخرا رؤية ملتبسة حول القدس, يدعو فيها الى "التخلص" من جل "الاحياء العربية" من القدس, وذلك للحفاظ على "وحدانية ووحدة القدس اليهودية", وان كان يرى انه, بذلك, يقدم نموذجا للقدس باعبتارها عاصمة للدولتين, بحيث يمكن ان يكون مقر الحكومة الفلسطينية "في وقت ما" في احد تلك الاحياء العربية. وانه لأمر بالغ الدلالة أن يقوم هيرتزوج, مباشرة بعد تقديم هذه الرؤية حول القدس, بزيارة, بمرافقة وسائل الاعلام, الى مستوطنة أريئيل, مؤكدا على التمسك بالاحتفاظ بها كجزء من اسرائيل (23 شباط, في The Times of Israel).

والمسألة الجوهرية في المواقف المعلنة للسيد هيرتزوج وحزبه, لا تقتصر وحسب على مزج قليل من العسل بكثير من السم, خصوصا في الرؤية الملتبسة التي قدمها حول القدس, وانما في الامعان في تبني الاسس الايديولجية لليمين وللمشروع الاستيطاني. فالاساس الفكري لرؤية هيرتزوج بخصوص القدس اليهودية يقوم حصرا على الاستعمار الصهيوني واعتبارات دينية وعرقية, تضمن له ولحزبه "وحدة ووحدانية قدس يهودية", غاب عنها تماما اية اشارة الى المصدرين الرئيسيين لمبادئ وأسس انهاء الصراع, وهما التزامات الاتفاقات الموقعة واحكام القانون الدولي بالاعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة وغير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

ففضلا عن انضمام ممثلي الوسط والمركز الى مواقف وسياسات اليمين ودوائر المستوطنين, كما يتمثل في مواقف هيرتزوج (كما مواقف لابيد) في التجاهل التام لذكر التزامات في اتفاقيات موقعة مع اتهام الجانب الفلسطيني دوريا بعدم الالتزام بها, تتجاهل رؤية هيرتزوج احكام القانون الدولي, وهي التي كانت الاتفاقيات الموقعة استندت اليها, بما فيها قرارا مجلس الامن 242 و 338, والقرارات الاخرى ذات الصلة, والتي تنص على عدم جواز الاستيلاء على الاراضي بالقوة. ومن ضمن القرارات المتصلة بالقرار 242, نستذكر في هذا السياق قرار مجلس الامن رقم 252 (21 أيار 1968) الذي يعتبر ان: "كافة الاجراءات التشريعية والادارية والاعمال التي تتخذها اسرائيل بما في ذلك مصادرة الاراضي والممتلكات والتي تميل الى تغيير الوضع القانوني للقدس باطلة ولا يمكن ان تغير الوضع". وكان مجلس الامن اكد على هذا المبدأ فيما يتعلق بالقدس في عدد من القرارات, مثل قرار مجلس الامن رقم 267 (3 تموز 1969) والقرار 298 (25 أيلول 1971), والقرار 476 (30 حزيران 1980), وبشكل خاص القرار 478 (20 آب 1980) الذي صدر من مجلس الامن بعد ان اقر الكنيست القانون الاساسي بضم القدس, والذي جاء فيه ان مجلس الامن: "يقرر عدم الاعتراف بـ"القانون الاساسي" والاعمال الاخرى المماثلة لاسرائيل التي تسعى بناء عليها الى تغيير صفة ووضع القدس", كما اكد القرار ان: "سن اسرائيل للقانون الاساسي يشكل انتهاكا للقانون الدولي ولا يؤثر على التطبيق المستمر لمعاهدة جنيف... في الاراضي الفلسطينية والعربية الاخرى المحتلة منذ عام 1967, بما فيها القدس".

والآن تتوافق التيارات السياسية الاسرائيلية في مجرى يميني استيطاني عنصري وديني متنصل من التزامات الاتفاقات الموقعة ومتجاهلا قرارات مجلس الامن واحكام القانون الدولي وممعنا في اللجوء الى فرض اجراءات احادية, تمثلت في هذا السياق في ما "قرره" هيرتزوج وحزبه بخصوص يهودية القدس وبخصوص مستوطنة اريئيل وغيرها, فانه لا يسعنا الا ان نتساءل عن غياب اية مواقف من المجتمع الدولي ممثلا في الرباعية الدولية بخصوص تنصل اسرائيل, بمختلف اطيافها السياسية فيما يبدو, من التزاماتها في الاتفاقيات الموقعة ومخالفتها المعلنة والواضحة للقانون الدولي ولقرارات مجلس الامن. لا يمكن للفلسطينيين ان يناقشوا آليات انهاء الاحتلال من القدس وباقي الاراضي المحتلة على اسس عرقية ودينية كما يدعو هيرتزوج وحزبه, وانما على اسس الشرعية الدولية والقانون الدولي والاتفاقيات الموقعة.