أحمد النــداف
وأخيراً وبعد 12 عاماً متواصلاً من المفاوضات، التي تخللها العديد من المنعطفات والمطبات الخطيرة، والتي وصل بعضها الى نقطة السقوط في الهاوية وانهيار المفاوضات وفشلها وبالتالي امكانية اللجوء الى الخيارات البديلة والتي كانت على رأسها الخيار العسكري، بغرض تدمير البرنامج النووي الايراني على غرار ما حصل مع البرنامج العراقي في مفاعل تموز، وكان العديد من الاطراف مستعداً تنفيذ هذا الاحتمال وعلى رأسها تأتي اسرائيل بطبيعة الحال.
ومن خلال القراءة الأولية للاتفاق، الموقع ما بين الادارة الأميركية باسم دول 5+1 والأمم المتحدة "سارعت الى تبنيه والموافقة عليه فور تدقيقه" وما بين ايران التي استفادت من مظلة الأمان التي دخرتها لها روسيا بالدرجة الألى والصين بعد ذلك. وهما اللتان منعتا استخدام القوة في وجه ايران وأصرتا على المفاوضات كطريق وحيد وعلى هذا الاساس يمكن القول بأنه يسمح لكلا الطرفين بالادعاء بأنه حقق انجازاً تاريخياً يذهب من يقف الى جانب ايران الى درجة اعتبارها بأنها نجحت في ترسيخ نفسها كقوة دولية على المسرح الدولي، وفي منطقة الشرق الأوسط اقليمياً وبقوة لم تستطع اي دولة "من دول العالم الثالث" الوصول اليها.
الاتفاق في ميزان الربح والخسارة
تعتبر الادارة الأميركية والمجتمع الدولي بأنهما حققتا الضمانة لعدم تطوير القدرات الايرانية النووية لانتاج الاسلحة وحصر البرنامج بالطبيعة السلمية وبأنها أجبرت ايران على التنازل عن طموحها النووي العسكري "ايران لا زالت تصر على ان برنامجها النووي سلمي" وهذا يتجلى بـ:
1. ابطاء الانتاج للوقود النووي والاكتفاء بالكمية الحالية البالغة 300 كلغ من اليورانيوم والتوقف عن التخصيب خلال الـ 15 عاماً القادمة وابقائها تحت الرقابة والسيطرة الروسية.
2. عدم امتلاك لأجهزة طرد مركزي مما يجعل من عملية انتاج مادة البلوتيوم أمراً مستحيلاً.
3. اجراء تعديلات على مفاعلات ايران النووية وخصوصاً مفاعل أراك مما يجعله غير قادر على انتاج اسلحة نووية.
4. خضوع المنشآت النووية للتفتيش والرقابة الدائمة.
أما من الناحية الايرانية:
1. استطاعت ايران على انتزاع الاعتراف الدولي لمواصلة الابحاث النووية للاغراض السلمية " وهو ما تصر عليه ايران".
2. القدرة على تحديث الاجهزة الحالية التي اصبحت بالية ولا تستطيع تطوير قدرات نووية واستمرارها.
3. رفع الحصار الاقتصادي وتحرير أرصدتها المجمدة والبالغة 180 مليار دولار وهذا الامر ومن الناحية الاقاصادية يتقاسم كل الاطراف الاستفادة منه خصوصاً وان ايران الحالية تعتبر من الاسواق الهامة بعد الحصار القاسي والذي استمر لسنوات طويلة مما يدفع الدول على رأسها الولايات المتحدة الأميركية في تقاسم الكعكة من خلال الاستثمارات والمشاريع وحتى ارتفاع مبيعات الاسلحة الى مستويات عالية جداً. وهذا يفسر تسابق المسؤولين الدوليين للسفر الى ايران من اجل ابرام الاتفاقيات.
ومن خلال القراءة الأولية تبين ان كلا الطرفين يستطيع الادعاء بأنه حقق انجازاً تاريخيا، وان الحديث عن الخسارة يطال الدول المحيطة في الاقليم وعلى رأسها الدول العربية بطبيعة الحال وتحديداً دول الخليج العربي التي وجدت نفسها بين فكي دولتين تمتلكان قدرات نووية "ايران + اسرائيل" دون ان يكون لدى اي دولة منها امكانية لامتلاك اي نوع من البرامج النووية.
أما من الناحية السياسية فإن المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأميركية بالاساس تستطيع الادعاء بأنها ضبطت ايران متلبسة بتجاوز القانون الدولي واجبرتها على التفاوض وعدم تكرارها للتجربة الكورية وان كانت ايران قد استفادت هي الاخرى من عوامل الوقت وتجيره لصالحها الى جانب اتقانها لفن التفاوض والنفس الطويل والصبر وبالتالي التعامل مع الوقت ببراعة قصوى.
وكذلك اجبار ايران على الاعتراف والموافقة على تقديم جردة حساب نووي بعد عشر سنوات والموافقة على الرقابة الدائمة المشددة. وهذا الاتفاق دفعها للتخلي عن مفاهيمها الايدلوجية بخصوص العداء مع اميركا التي كانت تصفها ايران بالشيطان الاكبر فهي تتشارك مالياً مع هذا الشيطان. وان كانت الولايات المتحدة الاميركية اعترفت بالنظام الايراني وشرعيته والتعهد بعدم الانقلاب عليه وكذلك الاعتراف لايران بدورها الاقليمي كلاعب كبير على غرار تركيا واسرائيل. وهذا لا بد من الاشارة الى ان تعرض ايران نفسها كدولة اقليمية محورية شيء والاعتراف بحجمها شيء آخر خصوصاً وان ايران تسعى ومنذ فترة طويلة الى خلق خارطة سياسية ونظام أمني اقليمي جديد يدخلها شريكا الى دول مجلس التعاون الخليجي وتحديداً المملكة العربية السعودية والدخول في هذا النظام مع العراق المسيطر عليه من قبلها كخطوة اولى على طريق تفكيك مجلس التعاون وعدم ابقائه تكتلاً وحيداً في المنطقة. خصوصاً وان ايران تدرك جيداً بأنها لن تكون دولة ارتكاز وحيدة حيث هناك الدور التركي والهندي والباكستاني وكذلك اسرائيل، وكذلك ادراكها بأن الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي لن يصل الى درجة التخطي عن دور دول الخليج العربي وتحديداً المملكة العربية السعودية لصالحها او كرمى لعيونها حتى في ظل تحرير ملياراتها المجمدة.
وبالتالي فإن أقصى ما يمكن ان يكون بين الطرفين هو حالة من التطبيع بين الطرفين على اعتبار ان الولايات المتحدة الاميركية لا تستطيع تجاهل دور ايران المتناهي وكذلك ايران لا تستطيع بدورها تجاهل الدور والنفوذ الأميركي في المنطقة وهذا ما يحتم عليها التعاطي معها بطريقة جديدة بعيدة عن مفاهيم الشيطان الأكبر. وهذا ما عبر عنه الرئيس روحاني عندما قال: "تعالوا لنتعايش مع الواقع الجديد ومتطلباته " والتي يبدو أنها ستكون بوصلة المرحلة القادمة رغم ان المرشد اعلن بان ايران باقية على سياستها حيث يعتبر هذا الحديث يصب في اطار تبادل وتوزيع الادوار. خصوصاً ان الثابت القادم سيجعل ايران مجبرة على التعامل مع الدول وليس مع القوى والاحزاب والتكتلات السياسية وهذا التعامل له أساليب وطرق مختلفة تماماً.
وهذا الامر سيجعلها مجبرة على اعادة رسم خارطة تحالفاتها الاقليمية الجديدة على هذا الاساس. وان كانت غير مبجرة على التخلي عن دورها في العراق المتفق عليه منذ حكم الرئيس الاميركي جورج بوش الذي احتلت قواته وأقصت نظام الرئيس صدام حسين العدو اللدود لايران حتى الآن الا ان هذا الأمر سيكون مختلفاً بالنسبة لسوريا ووضعها الحالي والذي ستكون ايران مضطرة ولأول مرة للتفريق ما بين النظام السوري والرئيس السوري وما بين سوريا كدولة في المستقبل، وهذا الأمر ينطبق على اليمن الذي سرعان ما ظهر عليه ملامح هذا التبدل والتغيير من خلال التطورات السريعة التي طرأت على مدينة عدن والتي اعتبرت اولى التغيرات في "السلوك الايراني" حيث ستكون مضطرة للتخلي عن حلفائها الحوثيين كقوة شعبية وحصر تعاملها مع الدولة وهي العائدة حديثاً الى الاسرة الدولية. بغض النظر عن شكل هذه الدولة وطبيعة النظام الجديد المفترض ان يقوم بعد التطورات الجديدة القادمة هناك والتي بدأت ملامحها بالظهور كأول ثمرات الاتفاق النووي معها. وهذا الامر ينطبق على المثال اللبناني والتعامل مع حزب الله الذي مازال يعتبر وهو أيضاً اي الحزب جندياً في جيش ولاية الفقيه ستكون ايران مضطرة للنظر اليه برؤية مختلفة تماماً غير تلك السائدة حالياً. دون ان يعني ذلك التخلي عنه نهائياً بل على العكس سيتم اعادة رسم دوره على المستوى الاقليمي بطريقة جديدة بطريقة جديدة تؤدي الى اعادته الى حجمه الطبيعي في الخارطة السياسية اللبنانية الداخلية والمخلتفة عن الحجم الحالي في لبنان او في سوريا.
وكذلك ستكون ايران مضطرة أو مجبرة على تغيير نمط تعاملها مع الملف الفلسطيني وتحديداً مع حركة حماس والحركات التي تدور في الفلك الايراني حالياً وبالتالي لا تستطيع الاستمرار بالطريقة الحالية في التعاطي مع الملف الفلسطيني وهذا الوضع المستجد والناشئ في كل من اليمن وسوريا ولبنان ستكون ايران في المحصلة النهائية مجبرة على التخلي عن حلمها بمسك والتأثير في المنطقة من خلال اطلالتها على المياه والمنافذ البحرية في كل من الخليج والبحر الأحمر والبحر الابيض المتوسط وهذا يعني ان الملف النووي وان كان قد اغلق فهذا يعني ان الملفات الاخرى لم تغلق في وجه ايران بل على العكس قد فتحت من جديد وبطريقة جديدة وغير معتادة بحيث ان لها مقاييس ومعايير مختلفة.
وخلاصة القول على الصعيد الاقليمي بالتحديد وفي ظل التموضع الجديد للدور الايراني في ظل الاتفاق النووي الجديد والمواقع الجديدة التي أفرزها، لا شك يتضح بأن اكثر الاطراف تأثراً بهذا الاتفاق تأتي الدول العربية وخصوصاً دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وهي ستكون أمام مرحلة جديدة في رسم خارطتها السياسية لمواجهة التطورات القادمة وهذا الأمر لا يمكن ان يتم بمعزل عن الدور والموقع والتأثير المصري وهذا الأمر يستلتزم اعادتها الى حجمها الطبيعي للعب دورها الريادي في المنطقة العربية كرائدة وكقائدة للمنطقة العربية نتيجة لموقعها وحجمها القادر على ملء الفراغ المتأتي والحاصل نتيجة الاحداث العربية التي تعصف بكل دولة تقريباً والتي انجلت غبارها عن تغييرات كبيرة وهامة في معظم الدول العربية وانظمتها مما دفعها الى التراجع عن دائرة التأثير والتي لا تستطيع ان تستمر في وضعها الحالي من التهميش الدولي من جهة والذي زاد من حدته الاتفاق النووي الايراني الأميركي حتى في ظل الأخذ بعين الاعتبار عوامل التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدولية والتي يتعايش فيها التناقض والتوافق تحت سقف واحد على اعتبار ان الأسس التي رسمت من خلالها خارطة العالم بين الحرب العالمية الثانية لازالت قائمة حتى اللحظة ولا يوجد في الأفق مؤشرات لتغيير هذه الملامح وان كان ظهر للعيان وطفا على سطع العالم اتفاقيات ومعاهدات وتوافقات تبدو استراتيجية تعني كل العالم ودوله.
أحمد النــداف
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها