تحقيق:غادة اسعد
زُرتُها لأولِ مرةٍ قبل شهرٍ، فوجدتها كما توقعتُها، رأيتُها على مدّ النظر، تتلوّن بانعكاسِ الشمسِ على وجه الأرض، تُشرِق الشمسُ لبعضِ الوقتِ ثم تشحُبُ في فصلٍ شتويٍ تُنذِر غيومه بموجةٍ مِن البردِ يتبعهُا شتاءٌ لا يتوقَف.
صمتٌ يأسِرني في طريقٍ طويلٍ، خفتُ لوهلةٍ ألا ينتهي، لكنّه تبدّد بفعل تدافُع الشاحنات واللافتات على جوانب الشوارع الرئيسة، المكتوبة باللغتين العربيّة والعبريّة، هُنا بئر السبع، نقترب من حورة، ومن ثم رهط.
دخلتُ المدينة، أطفالٌ يبتسمون على حواف الطرقات، طلابٌ يتدافعون مِن مدارسهم التي تحاذي الشارع الرئيس، والأهالي منشغلون إما بالوصول عبر مركباتهم، أو بانتظار الحافلات العمومية.
وفي ساحةِ المدينة بناياتٌ حديثة، بينها بلدية رهط، وإلى جانبها المركز الجماهيري، ومركز الخدمات الصحيّة، مع أني أذكُر قبل بضعِ سنوات أن الخدمات الصحيّة كانت تعمل على شكل دورياتٍ متنقلّة، وفي بعض المناطق بالنقب لم تزل كذلك، وبينها في العراقيب، فهناك تهدم بيوتهم يوميًا، وتفتقر حياتهم للخدمات البسيطة، بينما يطيبُ للجندي أو الشرطي الذي يُنفّذ أوامِر المؤسسة الإسرائيليّة أن يُسقِط البيوت بضربةٍ واحدة من جرافات الهدم المنتشرة في المكان ليتحوّل البيتُ في لحظةٍ إلى خليطٍ من التراب والحجارة.
أما بخصوصِ الإنسان في النقب، فهو أيضًا غير معترفٍ بِهِ، هو ليسَ بشرًا، ويحقُ للشرطيّ/الجندي أن يضغط على زناده فيقتله متى شاء، دون أن ترِفَ لهُ عينٌ أو يشعُرَ ببعضٍ من تأنيب الضمير، هذا ما جرى في كانون الثاني الماضي، حينَ استُشهدَ شابان من النقب هما: سامي الجعار (22 عامًا)، وسامي الزيادنة (40 عامًا)، وكلاهما قُتِل على يدِ الشُرطة، ورغم اعترافِ أحد أفراد الشرطة بقتلِ الجعار، إلا أنّ المحكمة أرسلته إلى البيتِ بدلاً مِن محاسبته كمجرمٍ قاتِل.
قتلٌ في النقب: والمُجرم لا يُحاسَب!
كان خالد الجعار، والد الشهيد سامي، الجعار يأمل أن يتمكن من انتزاع اعترافٍ مِن الشرطي في المحكمة العُليا، مِن فمِ القاتِل، وهكذا تأمّلَ أهلُ النقب الذين شاركوا في تشييع جثمان الشهيدَين سامي الجعار وسامي الزيادنة، إذ قُتل الزيادنة أثناء جنازة الشهيد الجعار مختنقًا بقنابل الغاز التي أطلقتها الشرطة لتفرقة المشيّعين، وفوق ذلك اعتقلت الشرطة الإسرائيلية عشرات الشبان الذين شاركوا في الجنازة، ولا يزال بعضهم معتقلاً حتى اليوم.
والد الشهيد الجعار قال: "إنّ الشرطة عدائيّة، ولا تُراعي حُرمة البشر، وحينَ ذهبتُ لمرافقة ابني، بدلاً مِن شعورها بالخزي، قامت بضربي وكسرِ يدي وتهديدي.. هي تصرفاتٌ صبيانيّة وتُشبه العصابات المجرمة".
وأضاف: "تتعامل الشرطة مع أهل النقب على أنهم أعداء لها لا بشر، وكأنهم ليسوا أصحابَ الأرضِ والمكان".
ورغم اعتراف الشرطي المشتبه به بإطلاق النار على الشاب الجعار، وثبوت أنّ عمليّة القتل غير قانونيّة وغير مبرّرة، إلا أنّه أُخليَ سراحه وحُوِّل إلى "الحبس المنزلي"، بادعاء المحكمة أنه لا دليل فعلي يستوجِب استمرار حبسه، علمًا أنّ الشرطة كانت قد طلبت من المحكمة منحهم الوقت لتقديم استئناف للمحكمة العليا الإسرائيليّة رغم أنّ الشرطة تأكّدت من أنه كذبَ خلال التحقيق معه، وأنكر أنه أطلق الرصاص من سلاحه الشخصي.
وعلّق عضو اللجنة الشعبيّة في رهط الشيخ يوسف أبو جامع على قرار إخلاء سبيل الشرطي بالقول: "لا أستغرب هذا الحكم، فلو كان مُرتكِب الجريمة البشعة عربيًا وقتلَ شابًا يهوديًا لنالَ ضِعفَين من العقاب، ونحنُ لا نعوّل على المحاكم الإسرائيليّة إنما نعوِّل على تكاتفنا الجماهيري والعمل المشترك من أجلِ مواجهة الظلم ورده عن أبناء شعبنا، وحماية ما تبقى لنا مِن أراضٍ وأبناءٍ ومقدسات".
النقب: هكذا كان.. وهكذا أصبح بعد النكبة!
لم تخمد يومًا منذ نكبة العام 1948، مشاعِرُ الغُبْنِ والقهرِ والاستهداف الذي يعيشه العرب البدو في منطقة النقب جنوب فلسطين، فبدأت معاناتهم عندما كان عدد السكان يتجاوز الـ90 ألف نسمة، وانتموا في حينه إلى 95 قبيلةٍ بدويّة، وما أن تأجّجت نارُ الحرب الصهيونيّة ضد الفلسطينيين حتى تحوّل غالبيتهم إلى لاجئين في الدول العربية المحيطة، وفي المناطق الفلسطينيّة التي احتلّتها إسرائيل العام 1948. واليوم لم يبقَ سوى 11.000 نسمة تحت سيطرة السلطات الإسرائيليّة، التي فرضت قيودًا على حركتهم وحريّة تنقُّلهم مع المواشي وقيّدت حريّة زراعة أراضيهم، ولم يبقَ مِنهم سوى 19 قبيلة، يسيطرون على 10% فقط من الأراضي، كما حوصروا بأمرٍ مِن الحكم العسكري الذي طُبِّقَ حتى العام 1966، وهكذا كان عليهم الحصول على تصاريح رافقتها تقييدات في العمل والدراسة والصحة والأسواق، وغيرها.
وفي مقالٍ خصّه أستاذ قسم التربية في جامعة بن غوريون بالنقب، البروفيسور إسماعيل أبو سعد، لمركز مدى للأبحاث في مدينة حيفا، تحت عنوان (الفلسطينيون في إسرائيل قراءات في التاريخ والسياسة والمجتمع والصادر عام 2011)، كتب أبو سعد أنّ حياة البدو الفلسطينييّن الأصلانييّن في النقب، كانت عبارة عن محطات من المعاناة وبالأساس السعي للتمدين القصريّ والحرمان من الاعتراف بهم، ما أسفر عن مقاومة شعبيّة على مدار التاريخ، تمثّلت بالهيئات التي أقامها البدو لخدمة مصالحهم مقابِل الأُطر التي أقامتها الحكومات الإسرائيليّة الـمُتعاقِبة لفرض التمدّن وتركيز البدو جغرافيًا في بقعةٍ ضيّقة والاستيلاء على الأرض.
من جهته أوضح رئيس المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها الشيخ عطيّة الأعسم لـ"القدس" "أنّ العرب البدو في النقب يعيشون نكبةً مستمرة، لأنّ إسرائيل تسعى لتحقيق الحلم الصهيوني من خلال انتزاع الأرض وتهجير العرب، فمساحة النقب التي تصل إلى 12,8 مليون دونم، انحسر عدد السكان فيها مِن 90 ألف فلسطيني إلى 10 آلاف بعد النكبة، أما اليوم فتجاوز عددهم الـ250 ألف نسمة بينهم مهجّرون يحلمون بعودتهم، لكنّ إسرائيل في كلِ يومٍ جديد تبتلع المزيد من الأرض في النقب، كما تفعل في المناطق المحتلة في الضفة والقدس والجليل والمثلث، والمدن الساحليّة".
الشيخ الأعسم كان يأمل ألا تصُب إسرائيل جام غضبها على سكن النقب، وتحاربهم بأذرعها المختلفة وبينها "الصندوق القومي الصهيوني – الكيرن كاييمت، أي دائرة أراضي إسرائيل، اعتمادًا على جيشها وشرطتها وبالاعتماد على المستوطنات اليهوديّة التي ابتلعت أكثر بكثيرِ مما يملكه العرب مِن أراضٍ وممتلكات.
وكان العضو العربي في الكنيست الإسرائيلي الدكتور أحمد الطيبي قد صرّح أنّ الجرافات الإسرائيليّة هي رمزٌ للهدم وأنّها لا تختلف عن الدبابات الإسرائيليّة، وأوضح أن "الآليات العسكريّة هذه هدمتْ أكثر من 530 بلدة إبان النكبة، وتستمر النكبة بالهدم والمصادرة"، معلّقًا "ومع ذلك لن ننحني ولن نهجُر الوطن، ولن نسمح للدولةِ بتهويد النقب والجليل والقدس، ولن تنتصر القوانين العنصريّة على صمودنا وثباتنا فوق أرضنا، والوحدةُ هي السبيلُ الوحيد لتحصيل حقوقنا ورفع قضيتنا الفلسطينيّة إلى العالم".
أمّا النائب طلب أبو عرار، من النقب، فقال لـ"القدس": "لقد هزمَت إرادتنا الشعبيّة قانونَ برافر العنصري، لكنّ المؤسسة لا تتوقف عن محاربتنا في أرضنا، وقتلِ أبنائنا، واغتصابِ أملاكنا، وهي أملاكٌ ورثناها أبًا عن جد، منذ الحكم العثماني ويليه البريطاني وكلاهما اعترفَ بملكيّة العرب على الأرض، وِفَق النُظم العشائريّة المتعارف عليها، حيثُ لم يكن في حينه تسجيلٌ للأرض، سوى لـ4% من مجمل أراضي فلسطين، فهل نُحارَب على حرماننا من تسجيل 95% من أرضنا التاريخيّة!؟".
عن التمدين القسري للبدو في النقب
يَذكُر البروفيسور إسماعيل أبو سعد أنّ إسرائيل سعت في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي لفرض التمدين القسري و"عصرنة البدو"، من خلال انتزاعهم مِن أرضهم وتوفير خدماتٍ ناجعة في المنطقة، ونتج عن ذلك اختيار نموذج توطين مدني مكتظ، يدمّر كليًا نمط الحياة التقليدي للبدو، ولم تقُم الدولة بتوطين البدو في بقعةٍ مُناسِبة مِن الأرض أسوةً بالقرى الزراعيّة اليهوديّة، والكيبوتسات (التجمعات السكنية التعاونية)، والمستوطنات المحيطة بالنقب، إذ كان من الممكن أن يتوافق مع مطالب البدو بتطويرهم، بدون ترحيلهم وتغريبهم عن نمط حياتهم التقليدي المتعارَف عليه. ونموذج بلدة رهط التي يتجاوز عدد سكانها الـ40 ألف نسمة، لا يُشبه كثيرًا سائر المناطق في النقب، التي تفتقر إلى أدنى الاحتياجات الخدماتيّة من مصارف ومكاتب بريد ومدارس ترتقي للمطلوب، وتمرُ هذه البلدات التي فرضت المؤسسة الطابع المديني عليها بأصعب الظروف الاجتماعيّة والصحيّة والنفسيّة، وليس غريبًا أن تؤكِّد جميع التقارير السنويّة أنّ بلدات النقب هي الأكثر فرقًا، والأعلى في نسبة الحوادث البيتيّة وحوادث الطرق وتنتشر هناك بشكلٍ بارز مظاهر العنف والجرائم، ومُقارنةً بالبلدات اليهوديّة القريبة والقرى الزراعيّة والكيبوتسات فإنّ الخدمات المتوفِرة لدى اليهود هي الأفضل ليسَ في المنطقة فحسب، وإنما في البلاد عامةً، وتفسير هذه الفجوات بين اليهود والعرب هو الرغبة في السيطرة على الأرض وتطوير اقتصادٍ ناجع، مع التشديد على الجانب الثقافي الخدماتي والاجتماعي النموذجي الاستعماري، بينما يُعاني أكثر من 50% من السكان البدو في النقب مِن العيش في قرى غير معترف بها مِن قِبَل حكومة إسرائيل، وتقدّر مساحتها بـ800 ألف دونم، مع عدم الاعتراف بالخرائط الرسميّة وبحقوق البدو في الأرض واعتبارهم غُزاة استولوا على "أراضي الدولة"، وحرمانهم من الخدمات الأساسيّة، المتمثّلة بالماء، والكهرباء، ومدّ خطوطٍ للمجاري، وتعبيد الشوارع وتحسين الخدمات التعليميّة والصحيّة.
ويعيش البدو في المناطق غير المعترف بها، منطقة تدعى "السياج" شمالي النقب، بينما تسعى المؤسسة للسيطرة على مساحاتٍ واسعة من الأراضي التي يقيم فوقها البدو، باعتبارها مناطق استراتيجيّة تربط بين سيناء المصريّة وقطاع غزة والضفة الغربيّة والأردن، ولا تزال إسرائيل تسعى لتنفيذ مخطط "برافر" لتُبقيَ ما لا يزيد عن 1% من الأرض فقط للعرب، بينما يطالب العرب في النقب بحقهم في امتلاك 5.6% من الأرض.
من جهته صرّح الجامعي أنس أبو دعابس "أنّ الحركات والأحزاب والمجموعات الشبابيّة والجمعيات الأهليّة نشطت وساهمت في تنظيم المظاهرات والوقفات الاحتجاجيّة ضد المخطط الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، وتطوّر الحراك الشعبي إلى نضالٍ لانتزاع الأرض فكان الرد الإسرائيلي على أساسٍ قومي وعسكري لا مدني سكني كما ادعت المؤسّسة".
الهدم مستمر: بيوت العراقيب تهدم للمرة الـ81
البعض كان يعتقد أنّ إسرائيل تتعلَم مِن فشلها وحربها ضد الفلسطينيين، كما جرى في مخطط برافر العنصري، الذي أسقطه الفلسطينيون في الداخِل، وتوقَف الحديث عنه في وسائِل الإعلام، على اعتبار أنه لم يَعُد قائمًا، لكنّ السياسة العنصريّة لم تزل على حالها في النقب، إذ وصلت جرّافات وزارة الداخليّة الإسرائيليّة بإيعازٍ من "دائرة أراضي إسرائيل"، وبحضور الشرطة والوحدات الخاصة، وصلت إلى العراقيب، فهدمت بيوت المواطنين هُناك، دون إخطاراتٍ سابقة، رغم العاصفة الثلجيّة.
جرائم الهدمِ في النقب لا تتوقف!
كسائرِ البدو في النقب، يشعرون بفاجعة كبيرة، عندما تهوي بيوتهم في لحظةٍ، هذا ما حصل لخليل أبو مساعد من قرية تل الملح الذي انهارَ تمامًا وفقد الوعي لرؤيته منزل الزوجيّة، الذي كان يستعد للإقامة فيه مع عائلته، وإذ به يتحوّل ترابًا وحجارة مِن طين، مفاجأته الكبيرة أنّه لم يتوقَع أن يُهدم في عز البردِ والمطرِ، لكونه مقامًا في بقعةٍ مِن الأرضِ غير معترفٍ بِها، ومثله هُدِمت منازل لعائلات عربيّة أخرى في "أبو بطين" و"أبو عصا" و"أبو نميلة في النقب، كما هُدِمت أساساتِ بيتٍ في مدينة رهط، وتم إبعاد أصحابه وإغلاق المنطقة. هذا ويبلغ عدد المنازل المهدّمة منذ العام 2014 وحتى شباط 2015، أكثر مِن ألفِ بيتٍ. ويجري ذلك كجزءٍ من سياسةٍ باتت معروفة، تُمارَس ضد أهل النقب الذين لا يزالون يُناضلون، للبقاءِ في بيوتهم وأرضهم وقراهُم، وكُلما هُدم البيت، بنوا أساساته من جديد، كي يظلّ كالشوكةِ في حلقِ الاحتلال".
تجريف المحاصيل الزراعيّة
قامت "دائرة أراضي إسرائيل" وأذرعها المعزّزة بالسلاح، قبل أسبوعين، بتدمير وإبادة آلاف الدونمات من المحاصيل الزراعيّة لبدو يقطنون في قرى: اللقيّة وأبو كف، ورهط وعشيرة الهزيّل، وقرى أخرى غير معترف بها، ليتحوّل اللون الأخضر في لحظةٍ إلى تراب. كما نفّذت لجان التنظيم والبناء في القرى العربيّة بالنقب، مهمة توزيع أوامر هدم المنازل العربيّة بذريعة عدم وجود التراخيص، وفي الأسابيع الأخيرة ألصقت مئات الإخطارات على جدران مئات المنازل في قرى: طويّل ووادي النعم وعوجان واللقيّة وأبو جروال والسرّة والقرين وسعوة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها