د. سليم نـــزال
آمل لهذه الدراسة ان تقدم للقارىء خلفية تاريخية عن الواقع العربي الذي تشكل في معظمه في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، خاصة ان هناك قسطا وافرا من المشاكل التي نعانيها الان ان لم يكن جلها تمتد جذورها الى تلك المرحلة.فحتى تلك المرحلة لم يكن العرب يديرون شوؤنهم بانفسهم، فلقد تم غيابهم عن مسرح السياسة والحكم حوالي الف عام تغير فيها العالم كثيرا .
من الصعب الحديث عن الوجود العربي على مسرح التاريخ بدون ربطه بالاسلام، الذي اعطى العرب دورا حضاريا يعادل الادوار التي لعبتها امم اسهمت بالحضارة الانسانية مثل اليونان والرومان والصين والهند، ولهذا السبب، ارتبطت كلمة عربي بكلمة مسلم في معظم الفترة الماضية. ما عدا القرون الاخيرة، عندما بات الاتراك يمثلون الشرعية الاسلامية، وباتت كلمة تركي تعادل تقريبا كلمة مسلم .لكن رغم ادراك العرب انهم المساهم الاكبر في اعطاء البعد الكوني للاسلام كونه انطلق من البيئة العربية، وكون العرب ممن حمل لواءه الى مختلف بقاع الدنيا.ظلت كلمة مسلم طيلة العصور الماضية، هي التعريف الابرز الذي يعبر عن هوية العربي الفردية والجمعية والتاريخية. بعد ذلك دخل في الاسلام شعوب عديدة، وصار الاسلام البوتقة التي انصهرت فيها ثقافات عدة. ولعب المسلمون من غير العرب ادوارا اساسية في الحكم، ولفترات طويلة. كما لعب العرب المسيحيون دورا حضاريا مهما في الاسلام خاصة لجهة ترجمة الفكر اليوناني الى العربية . لكن يجب القول ان قبول العرب للحكم الاجنبي كان على خلفية دينية التي تسمح وتبرر ذلك من وجهة نظر اسلامية وبالتالي لا تنظراليه كاحتلال اجنبي.
على اية حال من المهم التفريق بين امرين، العرب من ناحية اثنية اي الذين يتحدثون اللغة العربية والذين يشعرون بهذا الانتماء الطبيعي بغض النظر عن اصولهم العرقية والدينية.
وبين العروبة اي الايديولوجية السياسية التي بدأت بالتشكل والظهور في القرن التاسع عشر، والتي سعت الى تأسيس كيان سياسي يجمع العرب. ولذا ليس من المستغرب ان منشورات الجمعيات القومية كالجمعية القحطانية، وجمعية العربية الفتاة، كانت تخاطب العرب بابناء لغة الضاد. وهذا الامر ليس صدفة بطبيعة الحال. فالعدو الذي كان يمنع العرب من حق تقرير مصيرهم كان مسلما مثلهم، لذا كان من الضروري التأكيد على العامل اللغوي الذي يميز العرب عن الاتراك وكذلك على العامل الذي يجمع العرب مسلمين و مسيحيين.وقد ترافق ذلك مع جهود عربية لاجل عصرنة اللغة العربية،خاصة وان تلك الفترة شهدت ظهور القوميات، ومنها القومية الطورانية التي مارست ضغوطا ثقافية على العرب بما سمي في التاريخ العربي بمرحلة التتريك. وهناك ادلة عديدة تؤكد ان العرب باتوا يشعرون بكيانهم المعنوي كعرب في هذه المرحلة ، ولعل الحدث الذي حصل عام 1912 عندما قصف الاسطول الايطالي بيروت بسبب تأييدها لابناء طرابلس الغرب. يؤكد على بداية نهوض عربي بدأت سحبه تتجمع وتتراكم هنا وهناك، لتفرز ما عرف لاحقا بالقومية العربية كحركة سياسية تهدف الى اقامة دولة في كل الاقاليم التي تتحدث بالعربية.
السؤال المهم الذي اثير لاحقا والذي يستحق الاضاءة عليه، ما الذي جعل العرب يختارون التحالف مع الغرب" انجلترا وفرنسا" ضد الاتراك، المفترض انهم اخوة في الدين؟ اهمية هذا السؤال، انه يسعى لفهم مناخ التحولات الفكرية والايديولوجية التي كانت تحصل في العقل الجمعي العربي في تلك الفترة. لان هذه التحولات لم تكن عارضة او وليدة اللحظة بل بسبب عدد من التراكمات التي ادت الى ذلك، هذا على الرغم من انها كانت تتعارض مع منظومة العقل الجمعي العربي الديني. ورؤية العرب التي تستند الى الدين الاسلامي في تحديد الصديق والعدو. حيث ان مرتكزات المنظومة الدينية هي التي تحدد مفهوم الصداقة والعداء او دار الحرب ودار السلم.
اذا يمكن القول ان التعارض مع الاتراك كان تعارضا سياسيا اذا جاز التعبير، اما التعارض مع الغرب فقد كان تعارضا ايديولوجيا. وباختيار العرب الوقوف مع الغرب فانهم بذلك كانوا يقدمون السياسي على الايديولوجي. هذا التحول كان مؤشرا على تغيرات عميقة في الفكر العربي لانه كان يعني خروجا عن الموروث الثقافي العربي الاسلامي. اما لماذا حصلت هذه النقلة الفكرية، هناك عدة تفسيرات: منها ما يتعلق بظلم العثمانيين الذي تجاوز القدرة على التحمل خاصة في مراحله الاخيرة، ومنها تاثيرات المناخ القومي الذي بدا يتشكل، ومنها المساهمة الفعالة في الفكر القومي للعرب المسيحيين. والاتجاهات الاسلاموية الراهنة عادة ما تنزع الى تفسيرذلك عبر اتهام المسيحيين العرب في قيادة التيار المعادي المعارض للدولة العثمانية، وهو تفسير ينحو باتجاه نظرية المؤامرة ولا يأخذ بعين الاعتبار التحولات والمناخ العام في تلك المرحلة.
معظم الابحاث التي تحدثت عن تلك المرحلة، كانت غالبا ما تعتبر نقطة البداية مرحلة التثاقف العربي مع الغرب او التأثيرات الغربية في القرن التاسع عشر خاصة منذ حملة نابليون وتأثيرها في ايقاظ الشرق. وانا لست مقتنعا تماما من اعتبار تلك المرحلة فعلا مرحلة البداية الاولى، لاننا نعرف ان المراحل الانتقالية الكبرى تحتاج لوقت لبلورة الهوية الجديدة، وهذا الامر يتطلب تراكمات طويلة لفرز نقلة نوعية كما يقول الماركسيون.. ولكي اكون اكثر دقة، اتحدث بصفة خاصة عن التحولات في منطقة ما يعرف بالهلال الخصيب التي اعتبرت الحاضن الاول للفكر القومي العربي. وعلى اية حال يبدو لي ان هناك القليل من الابحاث التي رصدت بدايات التحولات البطيئة منذ القرن السادس عشر والثامن عشر، التي اوصلت في النهاية الى مرحلة التحول الكبرى. ولربما تكون حركات التمرد التي قام بها الاقطاع في القرن السادس عشر مع حركة الامير فخر الدين الثاني، وظاهر العمر في بلاد الشام، ومحمد علي في القرن التاسع عشر في مصر ارهاصات لتحولات لم تنضج الا بعد حوالي القرنين.
هذه الارهاصات والتمردات لم تكن تطرح خيارات هوية قومية واضحة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، الا ان حالة التمرد كانت تقوي فكرة التمايز عن الاتراك، وتساهم تدريجيا في تعزيز الثقة بالنفس وتقوية الذات الجمعية. لابد انها ساهمت تدريجيا في اضعاف شرعية الحكم العثماني خاصة في مراحل لاحقة، عندما بدا ينظر اليه كحكم اجنبي محتل. وهذا امر طبيعى لان النظرة اليه كحكم اجنبي لم تكن موجودة ا بسبب الانسجام و عمق الصلة ما بين النظام الحاكم و منظومة الافكار الشعبية الدينية. وبالتالى فان النظرة اليه على انه حكم اجنبي يعزز الفكرة التي تقول ان المرحلة شهدت زحزحة على مستوى اليقينيات الفكرية المتوارثة. لكن من المهم التأكيد ان هذا التحول سار ببطء لان تغيير ما يعرف باليقينيات السوسيوثقافية يتطلب وقتا طويلا. وانا اتذكر انه حتى عهد قريب كانت تعابير مثل تعبير (الشعب المسلم) او (الشعب المسيحي) من التعابير التي كانت تستخدم للتعبير عن الهوية والانتماء في عدد من البلدان العربية المتعددة الاديان.و هذا ليس بالمستغرب لان الاشكاليات المتعلقة بالهوية، وكيفية تعريف الذات الفردية و الجمعية تحتاج عادة لوقت لكي تتبلور. وقد شهدنا منذ زمن غير بعيد تعقيدات هذا التحول لدى انحلال الاتحاد السوفياتي كما شهدنا مرارة وآلام وتعقيدات هذه التحولات ابان تحلل الجمهورية اليوغوسلافية.
والسبب الاساس يكمن في انه حين تسقط الهوية الفردية والجمعية القديمة والمتعارف عليها تحل مكانها هويات جديدة وهو مخاض له تعقيداته وصعوباته. ورغم مناخ التحولات هذا، ظل العديد من النخب العربية، خاصة ذات التوجه الديني حتى قبيل الحرب العالمية الاولى، تعتقد بامكانية الاستمرار بصيغة ما ضمن الدولة العثمانية، ولذا لم تكن تؤيد فكرة الانفصال التام. وهذا يؤكد كما بات معروفا ان الولاءات القديمة لم تزل قوية الى حد ما، وبالتالي لم تكن كل النخب العربية قد حسمت خياراتها تماما، وان كان الامر يتفاوت باعتقادي بين تيار فكري و اخر.
وقد بدا هذا واضحا في مؤتمر باريس العام 1913الذي تبنى فكرة اللامركزية او الحكم الذاتى العربي، و ليس الاستقلال التام للسكان العرب الذين كانوا يشكلون الاغلبية في الدولة. لانهم كما قال عضو المؤتمر الشيخ احمد طبارة لا يريدون الانفصال عن الدولة العثمانية .انما يريدون تنفيذ الاصلاحات المطلوبة واتباع نظام اللامركزية. لذا فاننا حين نسعى لفهم ظروف تشكل الوعي القومي العربي، لا بد لنا من السعي لتفكيك التاريخ لاجل فهم افضل للاسباب التي دفعت بهذا الفكر الحديث لان يتشكل وينمو. لذا فاني اعتقد بوجود عوامل عديدة لعبت دورا لاجل ان يصل العرب لمرحلة يتحالفون فيها مع الغرب.لا شك ان عوامل الاحتكاك بالغرب والتعرف على افكار جديدة من خلال المدارس التبشيرية اضافة الى الاستبداد والضغط الثقافي التركي، لعبت كلها دورا في اضعاف شرعية الحكم العثماني التركي الذي بدا لعرب تلك الفترة انه حكم تركي اكثر منه حكم عثماني لكافة رعايا الدولة.
و من احد ابرز الاسباب التي لعبت في اعتقادي دورا مهما، هو ان نقد الدولة العثمانية لم يأتي فقط من مثقفين مسلمين علمانيين او متأثرين بالغرب، بل ايضا من نخب مسلمة قامت بنقد الدولة العثمانية من ذات الموقع الايديولوجي، امثال عبد الرحمن الكواكبي الذي لم ينقد السياسة العثمانية المستبدة فقط، بل قام بنزع الشرعية عنها عندما اكد على عروبة الخليفة بل على انه يجب ان يكون قريشيا . هذا النقد كان ربما الاصعب للدولة العثمانية، لانه يأتي من رجال دين مسلمين. في الوقت الذي كان بوسع الدولة اتهام المسلمين العلمانيين والمسيحيين بالعمالة للغرب كما حصل مع دعاة القومية العربية الذين اتهموا بتعاملهم مع فرنسا، وتم شنقهم في المحكمة العرفية في عاليه في جبل لبنان وساحة المرجة في دمشق.
وحتى تلك الفترة لم يكن الغرب معروفا جيدا للعرب. ولعل النظرة الايجابية العربية للغرب كانت هي الطاغية، بسبب ان العرب سمعوا او شاهدوا بل وانبهروا بانجازاته العلمية من خلال البعثات التبشيرية وكذلك من خلال ما عرفوه من البعثات العلمية التي كانت ترسل الى الغرب. وممن كتبوا عن ذلك كان الشيخ الطهطهاوي الذي كان المرشد الديني للطلبة المصريين في فرنسا الذي تأثر بما شاهده بما شاهد من عمران في باريس، في كتابه (الابريز في تخليص باريس). هذه العوامل مجتمعة شجعهم على الثقة باوروبا، دون ان ننسى ان نذكر ان تجربتهم كانت محدودة جدا في مسألة العلاقات الدولية بسبب غيابهم الطويل عن الحكم والسياسة. ولم يكن العرب يملكون الخبرة السياسية الكافية لمعرفة ان التحالف مع الغرب، سيؤدي لاحقا الى وقوع العرب في مشاكل اكبر لا زالوا يعانون منها حتى الان.
على كل حال لا يمكن فهم هذا الحراك الا في اطار المناخ الذي بدا يتشكل و يسمح بمقاربات دينية وسياسية جديدة تسمح بنزع الشرعية السياسية والدينية عن العثمانيين. ولعل تعبير الشريف حسين الشهير اننا عرب قبل ان نكون مسلمين يعبر عن هذا المناخ الجديد من تاريخ العرب. وقد يكون من مفارقات التاريخ العربي انه في ذات العام الذي اعلن فيها العرب ثورتهم على الحكم التركي، كانت الدول الغربية المفترض انها حليفة للعرب توقع في الخفاء على تقسيم المنطقة.
على الرغم من اننا نستخدم تعبيرالعرب في هذا المقام، لا بد من توضيح ما هو المقصود بكلمة عرب في تلك المرحلة التاريخية.على الرغم من ان التأكيد كان دوما على اهل لغة الضاد وان اسماء الجمعيات مثل (الجمعية القحطانية) كانت تشير الى ذلك.الا ان الحراك السياسي في تلك المرحلة لم يكن يشمل العرب بذات المضمون و البعد الجغرافي كالذي نستخدمه اليوم. تعبير العرب كان يعني على مستوى الحراك السياسي، بلاد ما يعرف بالهلال الخصيب والجزيرة العربية .ومعنى هذا ان التعريف لم يكن يتعدى الجزء الاسيوي من بلاد العرب. في مصر التي احتلها الانكليز العام 1882 ظهرت حركة القومية المصرية التي عبرت عنها جمعية مصر الفتاة و الحزب الوطني ،حيث برز هناك قادة مصريون مثل سعد زغلول و سواه من دعاة القومية المصرية التي اعتبرت التاريخ المصري القديم اي تاريخ ما قبل الاسلام مرجعيتها الحضارية.ولعل التاريخ المصري كان يسيرمتناقضا الى حد ما بتوجهات بلاد الشام والعراق. في الوقت الذي كانت فيه مصر تحت الاحتلال البريطاني كانت النظرة المصرية العامة الى الدولة العثمانية نظرة ايجابية، بل كانت هناك امال مصرية بمساعدة عثمانية لهم ضد الانكليز على عكس الواقع الشامي الذي كان تحت هيمنة الدولة العثمانية، حيث كان هناك قطاعات واسعة تتطلع للخلاص منها وتعتبرها قوة احتلال.
لكن مع الوقت ذابت القومية المصرية شيئا فشيئا في القومية العربية بسبب وحدة اللغة بين المصريين وسائر العرب، ومن المعروف ان اللغة هي احد اهم العوامل في تشكيل القوميات في مرحلة القرن التاسع عشر . ولعل غياب التمايز اللغوى وتأسيس الجامعة العربية، والمشاركة في حرب فلسطين من العوامل التي دعمت في نظري فكرة القومية العربية في مصر. وما ان جاءت ثورة الضباط الاحرار الذين تبنوا تدريجيا فكرة القومية العربية حتى باتت مصر تعتبر المعقل الاساس للقومية العربية في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
اذن يمكن الاستنتاج ان القومية العربية كانت من ناتج الصراع مع الاخر التركي المسلم وليس مع الغرب. ولعل ذلك من اسباب ارتباط الفكر القومي العربي بالعلمانية منذ نشأته. ولعله كان من الضروري التأكيد على الخصوصية الاثنية، لان الصراع كان يدور مع الاخر المسلم وكان من الطبيعي ان تشحذ فيه كل الاسلحة ذات الطابع القومي التي تساعد على التخلص منه. على سبيل المثال يلاحظ المرء خلو كتابات ساطع الحصري و هو من اوائل المنظرين للفكر القومي من الاشارة الى نصوص دينية . لكن العامل الديني الاسلامي كان يبرز اكثر و اكثر عندما يكون الصراع مع الاخر الاوروبي الغربي المسيحي. و هو امر حصل مع شعوب اخرى مثل الاستخدام الدينى المسيحي الارثوذوكسي في اليونان لمقاومة الاحتلال العثمانى. وبالفعل فان عامل الدين بدا بالبروز في حركات حركات النضال ضد الاحتلال الغربى. لكن العامل الديني كان نوعا من الفكر الديني الوطني، اي ان العامل الديني كان عامل تعبئة لا اكثر كما هي الحال في فلسطين مثلا مع الحاج امين الحسيني وعز الدين القسام. ولم تكن الحركات الاصولية قد ظهرت بعد كما في مراحل لاحقة.
كانت مرحلة الحرب العالمية الاولى هي المرحلة التي تم فيها بناء الشرق الاوسط بما يتناسب مع تطلعات و مصالح الدول الاوروبية المنتصرة.كانت النتيجة كما هو معروف ان العرب فشلوا في اقامة دولة قومية كما حلموا اثناء النضال ضد الدولة العثمانية، وحصلت تقسيمات سايكس بيكو كما هو معروف ،التي بدأت اول الامر مناطق نفوذ بين الحليفين الانكليزى والفرنسى، وبعدها تحولت الى كيانات سياسية بدأت تكتسب الشرعية مع مرور الوقت، وزاد الامر سوءا بعد زرع الكيان الصهيوني في قلب المشرق العربي الامر الذي وضع المنطقة العربية في صراعات و حروب حتى الان.
خاص مجلة "القدس"/ العدد السنوي
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها