كانت آثار الصدمة من نكسة حزيران 1967 ما تزال ماثلة في نفوس الفلسطينيين.. والمد الثوري يجتاح العالم، وكان على الفلسطيني أن يناضل بكل الطرق ليوصل صوته المظلوم، وأن يحشد العالم للوقوف إلى جانبه.
وكان للطلبة الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم نشاطهم التربوي والتثقيفي والسياسي والعسكري من أجل القضية وإبراز عدالتها للآخر، واحد من أولئك كان مروان عبد الحميد.. نموذج المناضل الذكي الذي تخرج من جامعة بلغراد حاملا شهادة الهندسة المدنية، متسلحا بالشجاعة والحماسة 'الثورية'.
في كانون الاول 1969 كان مروان عبد الحميد المولود في صفد في عام 1939، عضو اللجنة الثلاثية لقيادة فتح في إقليم الجزائر، التي اختارها ياسر عرفات، لتعويض غياب ابو جهاد.
وربطت عبد الحميد علاقات قوية بالسفراء اليوغوسلاف لدى دولة الجزائر، بصفته زوج لسيدة يوغوسلافية، وكان حلقة وصل بين الجزائريين المتزوجين من يوغسلافيات.
العمل الثوري لمنظمة التحرير وحركة فتح كان في أوج انفتاحه على العالم، وكانت الثورة تبحث في كل مكان بالعالم عن داعمين لها، ومؤمنين بالقضية الفلسطينية وعدالتها في مطالبها، وكانت فتح تتمتع بمصداقية عالية بعد انتصارها مع الجيش الأردني على القوات الاسرائيلية في معركة الكرامة شرق نهر الأردن، مما دفع حركات التحرر في العالم ودعاة الحرية الى مناصرة الحركة ودعمها.
قرأ عبد الحميد في أحد الصحف خبر: تيتو يصل اليوم الجزائر ليقابل بومدين. وكان جوزيف تيتو رئيس الاتحادية اليوغسلافية، العسكري والثوري اليوغسلافي من أصل كرواتي، من أشد المعارضين للاحتلال الاسرائيلي، صديقا حميما للعرب، مساندا لحقهم في التحرر واستقلال ارادتهم. وربطته علاقات قوية مع الزعماء العرب وبشكل خاص جمال عبد الناصر وهواري بومدين، وأسس مع جمال عبد الناصر ونهرو حركة عدم الانحياز
أدرك عبد الحميد الذي تربطه علاقات جيدة بيوغسلافيا، ضرورة استغلال الزيارة وطلب لقاء رسميا مع تيتو.
يقول عبد الحميد، اتصلت بوزير الخارجية الجزائري، وطلبت منه باسم الرئيس ياسر عرفات، عقد لقاء رسمي مع تيتو لمدة خمس دقائق فقط، رفض السفير وقال إنه من المستحيل الترتيب للقاء خارج الأجندة التي تم التنسيق لها منذ 3 أشهر، عاودت الإلحاح على طلبي وأني أحمل رسالة مهمة لتيتو من أبو عمار، ولا أحتاج سوى لقاء من خمس دقائق لإيصالها.
وتابع، بعد أربع ساعات عاودت وزارة الخارجية الجزائرية الاتصال بي، لتخبرني بقبول لقاء تيتو لمدة خمس دقائق فقط، من الساعة ال4:55 إلى الساعة 5:00، والتزام الرئيس تيتو بمقابلة الجالية اليوغسلافية في الجزائر عند الخامسة.
لم يكن ياسر عرفات على علم مسبق بتحركات عبد الحميد، لكن حنكة عبد الحميد دفعته لطلب اللقاء تحت اسم رسالة مهمة من ياسر عرفات، حتى تكون ورقة ضغط لدى وزارة الخارجية الجزائرية، وكان عرفات يرتبط بعلاقات جيدة مع تيتو.
يضيف عبد الحميد، أبلغني السفير الجزائري بمكان اللقاء وهو قصر الشعب بالجزائر العاصمة، وكانت الساعة بحدود الثالثة، بمعنى أنه لم يتبق لعقد اللقاء سوى ساعتين أو أقل بقليل، فأبلغت مسؤولية المالية بحركة فتح بالموعد حتى يشاركني اللقاء، كي لا أذهب لوحدي، وليبدو الموضوع رسميا كما طلبت، وهذا يحتاج الى وفد، وعدت إلى منزلي مسرعا لتجهيز نفسي للقاء، فوجدت زوجتي تجهز نفسها أيضا للقاء الجالية اليوغسلافية مع رئيسها تيتو.
يتابع، في تمام ال4:55 دخلت مسرعا الى مكان اللقاء لاستغلال الوقت القصير جدا، وكنت بحكم اطلاعي على احتياجات الثورة جاهزا لطرح ثلاث طلبات، حيث كان مطلبي الأول والأهم فتح مكتب إعلامي لمنظمة التحرير في بلغراد، وطلبت مني القيادة التي تعلم أن لي علاقات جيدة مع مسؤولين يوغوسلاف، كما طلبت دورة غطس بطلب من شقيقي هايل عبد الحميد 'أبو الهول'، وكان المطلب الثالث طرحه صلاح خلف 'أبو اياد' والمتمثل بطلب دعم عسكري من يوغسلافيا.
يقول عبد الحميد، لم يمهلني تيتو فرصة للتحدث في المطالب الثلاث، وبقي يسألني عن فتح ومنظمة التحرير والفدائيين الفلسطينيين وأبو عمار، بينما كنت أقاطعه لتذكيره أني لا أملك إلا خمس دقائق لتقديم مطالبي، وخشيتي من انتهاء مدة اللقاء قبل
عرضها، وكان يطمئنني أن هناك وقت وأن لا أهتم لذلك! ويفتح معي أحاديث مختلفة عن طرح المنظمة لمطلب الدولة الديمقراطية، وعن علاقة القيادة بعبد الناصر، ثم عرضت عليه المطالب ووافق عليها، وفاجأني حين قبل مطلب فتح مكتب إعلامي للمنظمة بشرط! رفضت الشرط قبل عرضه، وقلت: أنت أب الثوار وعلمتنا أن الثائر لا يقبل شروطا، فطلب مني أولا الاستماع إلى الشرط ثم الحكم عليه، وكان شرطه أن أكون أول رئيس للمكتب الإعلامي! فأخبرته أني وشقيقي أبو الهول اتفقنا أن يكون أحدنا عسكري والآخر رافده الاقتصادي، فكان أبو الهول الرجل العسكري، وأنا الاقتصادي، فقال لي: شعب فيه هذا المستوى من التفكير يستحق أن يحيا وينتصر.
يتابع، استمر اللقاء ساعة وعشرين دقيقة، ولم يتبق لانتهاء موعد لقاءه مع الجالية سوى عشر دقائق، فخرجنا سوية وبدأت الصحافة تلتقط لنا صورا وتكتب، تيتو يستقبل وفدا فلسطينيا رسميا، وسط دهشة الجالية التي كانت تنتظر معرفة أسباب تأخر تيتو في لقائهم.
بعثت برقية عبر التلكس لأبو عمار لإخباره بكل ما جرى، وكان في الرباط حيث ينعقد مؤتمر القمة العربية في 25/12/1969، فبعث بطلبي سريعا، وشكل وفدا يضم عضو اللجنة المركزية لفتح، أبو صالح، والقائد الفتحاوي أبو عمار سعد، وعينني رئيسا للوفد، فرفضت أن أكون رئيسا على أبو صالح، وقبلت أن أكون نائبه، وفي 29/12/1969 وصلنا بلغراد لمتابعة تنفيذ المطالب الثلاثة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها