تحتل هذه الذكرى المجيدة الثامنة والاربعون المكانةَ الوطنية والوجدانية الأولى لدى شعبنا الفلسطيني في الداخل المحتل ، وفي شتات الارض وبقاعها .تحمل هذه السنوات الطوال من عمر ثورتنا الرائدة سجلاً رائعاً يتضمن في طياته المآسي والمجازر والآلام ، لكنه يحمل أيضاً الانجازات الوطنية المتراكمة على مدى نصف قرن من الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي ، ويحمل سجلاً مشرِّفاً بقوافل الشهداء ، والجرحى ، والأسرى ، إضافة إلى الانتصارات التي سجَّلها شعبنا في معارك الشرف والحرية، وعلى جبهات المقاومة والمواجهة في مختلف الميادين والبقاع التي يتواجد فيها الفلسطينيون.

إنَّ أبطال الثورة الفلسطينية ، وأبناء حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح الذين شقوا طريق الثورة، وأطلقوا الطلقه الأولى، وأمضوا حياتهم في ساحات الوغى يحتفلون بهذه الذكرى على طريقتهم، فهم يستذكرون الماضي بكل ما فيه من كرامة وشهامة وعنفوان، ويستذكرون رفاقَ الدرب من الشهداء والجرحى والأسرى، ويتوقفون عند العهد والقسم والولاء والانتماء، فيستعيدون ثقتهم بالنهج الذي انتهجوه، ويدركون أنَّ المشوار طويل، وأنَّ المستقبلَ لشعبنا فالشعوب لا تُهزم.

عامٌ مضى ورغم ما فيه من المرارة والمعاناة، ورغم الجرائم التي يرتكبها الاحتلال قتلاً وتدميراً وقصفاً، وعدواناً على الأرض والمقدسات عَبْرَ الاستيطان المتواصل، والتهويد الممنهج، وبناء الجدار، والكُنُس، والانفاق. رغم كل ذلك إلاَّ أنَّ القيادة الفلسطينية التي نالت ثقة شعبها الصامد وواصلت شق طريق الحرية والاستقلال أصرَّت على خوض معركة التحدي ، ورفض الضغوطات والتهديدات والإنذارات الاميركية والإسرائيلية، وظلت على موقفها لأنَّ الأمر يتعلق بالثوابت الوطنية الفلسطينية وبحق تقرير المصير، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. أظهرت القيادة الفلسطينية وخاصة رئيس دولة فلسطين الرئيس أبو مازن بأنها تمتلك الإِرادة الوطنية والثورية الرافضة لكل محاولات الابتزاز الاميركية والإسرائيلية ومن لفَّ لفَّهما. وإذا كانت القيادة لم تنجح في الحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين في مجلس الأمن بسبب  الفيتو الأميركي، إلاَّ أنَّ المعركة انتقلت إلى الجمعية العمومية، وحُسٍمت لصالح دولة فلسطين عضو مراقب رغماً عن أنف الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، وذلك بموافقة (138 دولة) ومعارضة (9 دول). وما حدث كان انتصاراً في 29-11-2012 لكل الأحرار في العالم.

وهذا القرار الأممي هو إنجاز فلسطيني هو الاهم تاريخياً منذ النكبة، وبالتالي هذا الانجاز انتشل القضية الفلسطينية من مستنقع الإحباط والضياع. كما أنَّ هذه المعركة التي أوصلتنا إلى هذا الانجاز حطَّمت جدارَ الصمت والخوف العربي من الولايات المتحدة والإسرائيليين. ولا شك أن هذا الانجاز الوطني في الجمعية العامة جاء متواصلاً مع الانجازات التي تمَّت في عهد الرئيس ياسر عرفات الذي أعلن قيام الدولة في العام 1988، وابرزَ الكيانَ الفلسطيني، والذي فجَّر الانتفاضات الشعبية.

إن الولايات المتحدة ومعها الكيان الإسرائيلي لم تأخذا العبرة، ولم تستجيبا لإرادة المجتمع الدولي الذي أعطى لإسرائيل دولة منذ العام 1948، بينما تمانعان السماحَ لفلسطين بالحصول على دولة عضو مراقب بعد خمسٍ وستين سنة. ويترجمُ الاحتلالُ ذلك عملياً من خلال تنشيط الاستيطان وبناء المزيد من الوحدات السكنية في الضفة الغربية وخاصة في منطقة (E1 ) لفصل شمال الضفة عن جنوبها، وعزل مدينة القدس من جهة ثانية، تمهيداً لرسم حدود الدولة ذات الحدود المؤقتة التي تنوي «إٍسرائيل» فرضها على الفلسطينيين. كما لجأت إلى مصادرة أموال الفلسطينيين، وتحريض الدول المانحة لوقف المساعدات، ومضاعفة الإجراءات العقابية، والتنكيل بأهالي القدس وبيوتهم وممتلكاتهم ومقدَّساتهم، وفرض مزيد من الحصار.

إنَّ هذا القرار الجديد الذي يعترف بوجود دولة فلسطين تحت الاحتلال على الأراضي المحتلة العام 1967 وعاصمتها القدس يعني عملياً أنَّ المعركة ستكون شرسة ضد الاحتلال الإسرائيلي ونفوذه الاقليمي والدولي، وضرورة اتساع المشاركة العربية في هذا الصراع إضافة إلى الأصدقاء الإقليميين والدوليين. ولا شك أن الحصول على هذا  الاعتراف قطعَ الطريقَ على كافة الأطراف التي تريد التقسيم والتبعية.

 إننا اليوم بأمس الحاجة إلى البرنامج الوطني الفلسطيني الواحد، وإنهاء الانقسام والإعلان عن اكتمال المصالحة الفلسطينية والوحدة الوطنية. وأي تلكؤ في إنهاء الانقسام يعني إعطاء جرعة جديدة للانقسام للحؤول دون تنفيذ الاتفاقات التي تم التوقيع عليها في القاهرة وقطر، وبالتالي تعطيل الانتخابات وغياب تشكيل الحكومة. وقد باتت هناك ضرورة قصوى لرسم استراتيجية عربية وفلسطينية جديدة تقوم على مواجهة الاحتلال، واعتماد المقاومة الشعبية ورفض الخضوع، أو التراجع عن تحقيق أهدافنا الوطنية. وهذا يعني بالتالي مشاركة قطاعات شعبنا الفلسطيني في مقاومة الاحتلال في الإطار المقرر والخطط المعتمدة. استراتيجية المقاومة الشعبية تستدعي من أجل إنجاحها تحريكَ مختلف المنظمات والهيئات الدولية والعربية كي تأخذ دورها المساند والمساعد لكفاح شعبنا الوطني، وتبني مطالبه ومواقفه، وخاصة رفضه المشاركة في المفاوضات إذا لم تكن على أساس قرارات الشرعية الدولية، وحق تقرير المصير،ووقف الاستيطان، والافراج عن الأسرى. وأن تكون هذه المفاوضات بين دولة ودولة. وفي حال رفضت إسرائيل هذه الشروط فإنَّ القيادة الفلسطينية يجب أن تنقل هذا الموضوع إلى طاولة الامم المتحدة، وليس إبقاؤها تحت رحمة الكيان الإسرائيلي الذي لا يريد أن يرى فلسطين دولةً مستقلة على أرضها، وإنما يريدها دون سيادة، وممزَّقة، وملحقة بالاقتصاد الإسرائيلي، وهو الذي يسعى إلى إلقاء قطاع غزة في حضن مصر على طريق تقطيع أوصال الدولة والشعب. لا شك أَنَّ زيادة الضغوطات السياسية والأمنية، ومضاعفة الحصار المالي بتعليمات من الولايات المتحدة، دون تفهُّم لصالح الشعب الفلسطيني المحروم من دولته منذ خمسةِ وستين عاماً سيقود إلى تصعيد المقاومة الشعبية الفلسطينية وإلي توسيع إطار المشاركة فلسطينياً وعربياً، وهذا بالطبع يعني أن يأخذ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي أبعاده الحقيقية، وهي أبعد مما يتوقعه العدو المحتل، فالجرائم الإسرائيلية، والارهاب الإسرائيلي المنظم سيُشعل الغضبَ الفلسطيني، وسيندم الاحتلال لأنه لا يعرف إلاَّ مصالحه، ولا يقيم وزناً لشعب مضى على عذابه وتشرده خمسُ وستون سنة، هذه النظرة العنصرية والاجرامية ستقود المنطقة إلى العنف والرعب، ومزيد من القتلى والجرحى.

إن القيادة الفلسطينية تضع حساباتٍ دقيقةً لكل الاحتمالات القادمة، وتدرك تماماً أنَّ العدو الإسرائيلي ومعه واشنطن أخطأا الحسابات، وأُصيبا بنكسة مدمِّرة أطاحت بكل التقديرات التي لا تأخذ بالحسبان قدرات حركة فتح في مواجهة الأزمات منذ الشهيد الرمز ياسر عرفات وحتى هذه اللحظات، وقيادتنا مُصرة على استكمال هذه المعركة السياسية التي حققت أول نجاحاتها في قرار الأمم المتحدة، وإذا كانت حكومة الاحتلال الصهيوني  ترتعش وترتجف خوفاً من تبعات ومفاعيل هذه القرار الاممي، فإنَّ قيادتنا تتسلَّح الآن بالدولة التي تمَّ الاعترافُ بها، وتسعى للانتساب إلى كافة المؤسسات والمنظمات الدولية، وإلى البروتوكولات والمواثيق الدولية وخاصة اتفاقات جنيف الموقعة العام 1949 ، ومن خلالها الانتساب إلى محكمة الجنايات الدولية.

ومن خلال اتفاقات جنيف سيتم البحث عن حقوق الأسرى كونهم رعايا دولة واقعة تحت الاحتلال، ومن حق أبناء دولة فلسطين أن يقاوموا الاحتلال الإسرائيلي، وهذا الحق مكفول من الشرعية الدولية.

لا شك أن حالة الصمود والنصر التي حققها شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة بكل فصائله وقواه العسكرية ضد العدوان الإسرائيلي، كان لها الأثر الايجابي في دعم موقف الرئيس أبو مازن للحصول على عضوية دولة فلسطين، فالشعب الفلسطيني توحَّد في كافة الأراضي الفلسطينية، وواجه الاحتلال بوقفة رجل واحد، وهذا ما قرَّب المسافة بين مختلف الفصائل وسهَّل بالتالي إمكانيةَ التفاهم على الآليات الميدانية التي يجب إستخدامها لتكريس المصالحة على طريق إنهاء الانقسام الذي استخدمه الاحتلال سيفاً مسلطاً على القضية الفلسطينية من أجل تمزيقها وتدجينها.

نحن الآن في وضعٍ يمكننا من استخدامِ مفاعيلِ قرارِ العضويةِ بجرأةِ الحقِ الفلسطيني لفتحِ مختلفِ الملفاتِ المتعلقة بهذا الانتصار التاريخي، وإذا أتقنا قيادةَ المعركةِ سياسياً وقانونياً وشعبياً فإننا سنبكِّر الانسحابَ الإسرائيلي، لأن العالمَ عبَّر عن قناعته بكل تجرُّد من خلال التصويت في الامم المتحدة على القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وهذا مؤشر على مستقبل وواقع الرأي العام الدولي فهو مع فلسطين المظلومة، وضد الاحتلال الإسرائيلي البغيض.

إن شعبنا الفلسطيني في لبنان متمسك بحق العودة وتقرير المصير، ومؤمن بأنَّ لا حلَّ للقضية الفلسطينية في غياب عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم التي طردوا منها، رغماً عن حكومة الاحتلال التي ترفض مبدأ حق العودة وتؤكد على ضرورة الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية أي نظيفة من العنصر العربي، وهذا يعني أن الصراع مستقبلاً سيكون محتدماً، لكنَّ الجديد سيكون وجود مجتمع دولي متضامن مع حقوقنا، وسيتعاطى معنا على أساس أننا دولة معترف بها من دول الجمعية العمومية.

إننا نؤكد بأنَّ حركة فتح في لبنان ستسعى باستمرار من أجل توحيد الموقف الفلسطيني، واعتماد الحوار البنَّاء في الأُطر الفلسطينية الجماعية لتذليل المصاعب، والمساعدة على إيجاد برامج عمل مشتركة هادفة لتنظيم الاوضاع الاجتماعية، وتأمين الاستقرار الأمني، وتفعيل اللجان الشعبية والمؤسسات والجمعيات والاتحادات من أجل تأهيل المجتمع الفلسطيني، ليكون قادراً على تحمُّل مسؤولياته تجاه قضاياه الوطنية والمصيرية والحياتية.

كما نؤكد سعينا الدؤوب لإنشاء علاقات عمل وتنسيق مع الجهات الامنية والحكومية المعنية بالمخيمات وبمتابعة القضايا المتعلقة بالأوضاع الفلسطينية والاشكاليات القائمة. كما أننا نعتز بالعلاقات الأخوية والنضالية التي تربطنا مع كافة الأحزاب والقوى اللبنانية الوطنية والاسلامية، ونسعى باستمرار إلى أن تكون هذه العلاقات قائمة على اعتبار أن قضية فلسطين هي القضية المركزية، وأن الأمن والحفاظَ على المخيمات والجوار مصلحة وطنية عليا تسهم في تأمين السلم الأهلي في لبنان.

إنَّ مخيماتنا الفلسطينية في لبنان تعيش حالةً تضامنية وتكاملية . من أبرز القضايا الساخنة هي الإسراع في إستكمال اعمار مخيم نهر البارد، ونحن ندرك أن المشكلة متوقفة على الدعم المالي من الدول المانحة فما تمَّ بناؤه أقل من النصف حتى الآن. والموضوع المالي يحتاج إلى جهود مشتركة من الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية والانروا لأن الأهالي ما زالوا مشردين  في ظروف صعبة.

 والقضية الثانية التي تشغل الساحة اللبنانية هي قضية اللاجئين الفلسطينيين من سوريا بحكم الاحداث الأمنية الجارية على مخيم اليرموك حيث انه قد لجأ إلى لبنان حوالي 4300 أسرة فلسطينية، وهذا يتطلبُ وَضْعَ تصوٌّر واضح لإيواء ودعم هذه العائلات، خاصة أنَّ فُرصَ العمل في لبنان صعبة ومعيشتهم صعبة، وما يتم تقديمه من الانروا أو المنظمة أو من كافة الجهات والجمعيات هو شيء يسير.

في ذكرى الانطلاقة نتوجه بالتحية إلى أهلنا في الأراضي المحتلة العام 1948، وجماهير شعبنا في الضفة وقطاع غزة، كما نحيي وباعتزاز قوافل الشهداء والأبطال وذويهم الصامدين،والجرحى، والاسرى الابطال الصامدين في المعتقلات.

كل التحية إلى الرمز الشهيد ياسر عرفات، وإلي حامل الأمانة الرئيس أبو مازن.

وانها لثورة حتى النصر

حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح  لبنان

31/12/2012