خطاب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، في المهرجان الحاشد في غزة، أخذ مداه الأقصى على مستوى علاقة الوجدان الفلسطيني بمدركات القضية الفلسطينية، من حيث هي ذات حقائق ترقى الى مصاف الأيديولوجيا، حتى وإن كان إنصاف هذه المدركات وبناء الاستراتيجية الفلسطينية على أساسها، عصيّاً على التحقق في عالم السياسة ووقائعها. ففلسطين، على المستوى الخطابي الموصول بالوجدان الشعبي؛ هي كل فلسطين. والكيان الصهيوني لا شرعية له في الأيديولوجيا، وُوجهة التحرير، على هذا الصعيد، لا ينبغي أن تستثني موضعاً. غير أن حدث المهرجان الحاشد، في حد ذاته، هو وليد السياسة الواقعية والتهدئة المُلزمة، ولم يكن سيقع بهذا الحجم، وبحضور مشعل مع نفر من رفاقه في الخارج، لولا فسحةٍ وفرتها جُرعة من التعاطي المعقول مع الأمر الواقع في السياسة، لأن الممكن لا العسير الذي يطول انتظاره هو الذي يبهج الناس، ويفتح أمامهم بوابة الأمل في الحرية والاستقلال والتحقق الوطني، وفق محددات التسوية، كما نراها ويراها المساندون لمشروعنا الوطني.

مفارقات عدة، اشتمل عليها حدث ظهور رأس الهرم القيادي الحمساوي في غزة. فلا يختلف اثنان، على أن وصول الرجل، قد سبقته تدابير وضمانات، استُثني منها قادة «حركة الجهاد الإسلامي». وكان الفارق فيما أتيح لقيادة «حماس» وما لم يُتح لقادة «الجهاد» هو نفسه الفارق في الموقف السياسي، لأن الهدنة واحدة لكن المواقف تختلف. وإن كنا هنا، نستهجن وندين تعنت المحتلين حيال حق قادة «الجهاد الإسلامي» في الظهور العلني والإقامة والتحرك الآمن في غزة؛ لا بد أن ننّوه الى ثغرة لافتة في عملية التنسيق عبر الأطراف الجهة الضامنة لاستمرار الهدنة.

ننوّه أيضاً، دون الانتقاص من مقاصد أخينا مشعل، الى أن محمولات الخطاب الذي أسمعه للجماهير وتابعه الفلسطينيون وسواهم عبر شاشات التلفزة؛ لا تتسق مع فحوى التوجه الجديد للقيادة الحمساوية. وفي مقدور كل من يدقق في فقرات الخطاب، أن يتبين الاختلاف بين أجناس الإشارات، أي بين تلك الموصولة بالسياسة والأخرى الموصولة بالأيديولوجيا أو الأمنيات القصوى. فحق العودة مثلاً، مطلب لا بد من تلبيته في إشارة تضمنها الخطاب؛ وهذا يدخل على خط السياسة والتأسيس لمطالبة وطنية وفق القرار 194، بينما تصدر الإشارات عن تحرير كل فلسطين، الذي يلبي مثل هذا الحق حكماً، في سياق آخر آيديولوجي.

أما عملية المصالحة ووحدة الكيانية الفلسطينية، فإنها موصولة بالضرورة، بمسار العملية السلمية المتوازنة التي ينشدها الطرف الآخر من هذه المصالحة. لكن كل شيء متاح في الخطابة ولا اعتراض عليه، لا سيما عندما يلامس العاطفة الشعبية!

غير أن ما نخشاه، هو أن تكون الإشارات المتعلقة بالأمنيات القصوى، حاضرة في صياغة استراتيجية العمل السياسي الوطني، في إطار الوحدة الوطنية. فالاستراتيجية الناجعة التي نريدها، تتوخى أكثر من الممكن بقليل، حتى الآن، وفق موازين القوى. فبعد المصالحة، سنكون بصدد مفاوضات محتملة، إن وصل الاحتلال الى قناعة بأنه أمام طريق مسدود، في محاولاته التنصل من عملية التسوية. فإن لم نتفق على استراتيجية العمل الوطني ونحدد ماذا نريد، سيكون المحتلون في موقف أفضل، يساعدهم على الإفلات من استحقاقات العملية السلمية، وسنكون نحن الطرف الذي يخسر، ولسوف تنهار المصالحة تلقائياً باللغط الذي ينشأ عن المزاودة.

في الخطاب، طغت الأيديولوجيا التي هي في مكنون قناعاتنا جميعاً. ومن جانبنا، نحن نتقبلها طالما أنها تُكرّس زعامة مشعل، وتُطمئن الداخل الحمساوي، وتطوي صفحة الإعلان عن الانسحاب من موقع مسؤوليته. فهو أولاً وأخيراً، أكثر استنارة، وأوسع رؤية للمشهد الإقليمي والدولي، والأقدر على الانخراط في السياسة، من حيث هي سياق الممكن وفنونه، وهو على أي حال سياق عسير، وليس في المتناول حتى الآن.