بقلم: حنان بكير

تطل نافذتي على حديقة وارفة الظلال.. حيث يحلو لي الجلوس كل صباح أتأمل شجرات التفاح.. في اخضرارها وثمراتها صيفا، وفي بياضها شتاء، حيث يزيدها الثلج مهابة ووقارا. في موسم الإخضرار، تتحول الشجرات الى موئل لعصفور الدوري، الذي يرفض فكرة الهجرة، رغم قساوة الشتاء في بلاد الشمال. وكم كانت تحيّرني معرفة مكان اختبائه طيلة شتاء طويل! ويتردد على الحديقة أيضا، طائر يشبه الغراب بشكله وحجمه وقبح صوته. لكن اللون الأبيض كان يكحّل سواده. الكحل الأبيض، لأن السواد هو اللون الطبيعي للغراب. كانت ابنتي تحذرني منه، فهو لا يتورع عن الهجوم، اذا ما أراد سرقة! لكني لم آبه لتحذيراتها، وكنت ألقي الطعام له.

ذات ربيع.. لفتني عصر أحد الأيام، بعد عودتي من العمل وجود عش قيد الإنشاء وعلى أقرب شجرة لنافذتي. كان يبدو من أساساته انه مشروع عش كبير. فتعمدت مراقبته، ولأيام متوالية. عصفوران كبيران من ذلك النوع الذي يشبه الغراب، يبدو انهما يهيئان لبناء عش الزوجية معا. أحدهما ينقل بمنقاره القشّ والعيدان، والآخر يقوم بهندسة العشّ بطريقة جميلة ورائعة.

كانا يتركان العمل ظهرا ويختفيان، ليعودا بعد ساعة أو أكثر قليلا، يحملان المزيد من القش ويبدآن من جديد العمل. إنها استراحة بعد الغداء! وقبل المغيب بقليل، ينتهي نهار عملهما ويغادران. ليعودا في اليوم التالي الى روتينهما.. وقد تحولت مراقبتي لهما الى روتين يومي جميل لي، بلغ حدّ التعاون معهما، بأن أضع الطعام لهما قرب الشجرة، حتى لا يضيّعان الوقت في البحث عن قوتهما اليومي، فقد كنت أمنّي النفس، بالتمتع بطيور صغيرة في حديقتي.

أرقب كل يوم، اكتمال العشّ الجميل.. وأراه يكبر شيئا فشيئا.. قارب جاريّ الجديدان على الإنتهاء من البناء واتضحت صورته الجميلة. عدت ليلا.. أضأت الحديقة لأتابع إنجاز ذلك اليوم، وصعقت عندما لم أجده !! خلت طيرا كاسرا، قام بتدمير تعبهما.. استيقظت باكرا أكثر من العادة، لعل كان ذلك كابوسا! لا.. لم يكن كذلك! لحظات وجاء العصفوران.. وقفا على الغصن حيث كان مسكنهما.. غرّدا تغريدة حزينة، لم أسمعها منهما من قبل! كأنها نواح.. حاما بعض الوقت على الشجرة ذاتها، بحيرة وكأنهما لا يصدقان ما حلّ بهما! لكن سرعان ما بدأا العمل من جديد.. وعاد روتين إعادة البناء والمراقبة من جديد! وحصل الشيء ذاته مرة ثانية! لم أكن أقلّ حيرة منهما إزاء ما يحدث!

أعادا الكرّة مرة أخرى... ظروف عملي لم تتح لي المراقبة طيلة النهار. هذه المرة، وجدت العشّ مدمرا، وعلّق مكانه فردة قفاز كبيرة.. ووقف العصفوران على فرع مقابل يغردان تغريدة حزنهما..

إتصلت بجاري صاحب البيت وأخبرته القصة. كان هو من يقوم بتدمير العشّ، لأنها ستكون بداية غزو لباقي جنسهما لاستيطان الحديقة.. كنت أهاتف جاري، وعيناي مسمرتان على العصفورين الحزينين.. قلت يا إلهي.. وكيف يريدنا العالم أن ننسى وطنا، بناه أسلافنا عبر آلاف السنين؟!