في 21-3-1968 كانت المقاومة الفلسطينية على المحك ، كما انها كانت امام خيارات صعبة ومصيرية، و القرار بالصمود و المواجهة يتطلب الاعداد العسكري، و الارادة الثورية، والرؤية السياسية الواضحة ، وليس المطلوب في مثل هذه الحالة المغامرة او الانتحار، فهناك مصير شعب ، ومستقبل قضية.
القرار الاسرائيلي كان واضحا على لسان موشي دايان عندما قال ابأن المقاومة بيده كالبيضة يستطيع تحطيمها وتهشيمها ساعة يشاء. و الجواب كان عند ياسر عرفات زعيم الثورة، و ياسر عرفات يقبل التحدي في كل المرات، ولا ينهزم لانه يمثل ارادة الشعب الفلسطيني، و هو تربى على العزة ، والاعتزاز لديه نابع من اعتزازه بشعبه و قضيته. اخذ ياسر عرفات ومن معه من قيادات حركة فتح و الفصائل المتواجدة القرار التاريخي بالصمود والمواجهة رغم الاختلال الكبير في موازين القوى. فالمقاتلون وعددهم ى يتجاوز الاف كان عليهم ان يواجهوا اثني عشر الفا من جنود العو مدججين بارقى و احدث انواع السلاح، يختبؤن في الدبابات المتطورة، وتحميهم الطائرات على انواعها ، ويشارك المظليون في احتلال التلال المحيطة. المقاتلون الفلسطينيون الذين كانوا في الاغوار اخذوا الاستعدادات الكاملة، و في بلدة الكرامة التي اخليت من اهلها خوفا على حياتهم كانت الملحمة.. كان الصمود و كان التحدي، وعلّمت المقاومة الاحتلال الاسرائيلي بأن الثورة لا تقهر لانها وجدت لتبقى ولتستمر.
في ذلك اليوم كان المقاتلون يتهيأون لاستقبال الشهادة أو النصر، ويومها برزت أسماء لا تنسى إرتبطت بمعركة الكرامة.
بدأ العدوان بعبور النهر بإتجاه الأراضي الاردنية تحت غطاء مكثف جوي وبري ، أما المقاتلون الفلسطينيون فتعمدوا التستر والاختفاء والانتشار ، واستيعاب الصدمة العسكرية الاولى حتى يكون بالامكان التعامل مع الاهداف المعادية عند الاقتراب، وخاصة أرتال الدبابات، وتجدر الاشارة إلى أن المدفعية الاردنية تصدت ايضاً للهجوم العسكري الاسرائيلي وسقط العدو ثمانية وعشرون قتيلاً وتسعون جريحاً أما الجيش الاردني فسقط (61) شهيداً ومئة وثمانية جرحى ، أما المقاومة الفلسطينية فقد تحمّلت الخسائر أيضاً ، فحركة فتح فقدت اثنين وتسعين شهيداً من خيرة كوادرها، وقوات التحرير الشعبية فقدت أربعاً وعشرين مقاتلاً لقد دارت معارك ضارية مع القوات الغازية داخل أزقة بلدة الكرامة ، ومن شارع إلى شارع، ولم يتردد بعض المقاتلين من استخدام الأحزمة الناسفة لنسف أبراج الدبابات الإسرائيلية، والبعض الآخر قام بإستخدام السلاح الأبيض عندما حصل الالتحام وجهاً لوجه مع مشاة القوة الاسرائيلية ، لقد قررت قيادة حركة فتح التي كانت أمام كادرها وليس وراءه خوض المعركة داخل بلدة الكرامة وعلى مداخلها ، وكما قال ياسر عرفات الرمز والقائد بأنّ هذا القرار بالصمود والمواجهة لا علاقة له بالنظرية العسكرية التقليدية المعقدة في حروب العصابات.
لقد كانت القيادة واثقة أن هذه الثلة الطليعية المؤقتة ستفتح عصراً ذهيباً جديداً للثورة الفلسطينية.
إن نجاح حركة فتح في التصدي، واجبار القوات المعادية على الانسحاب بعد الخسائر الفادحة التي تكبدتها أثبتت للرئيس عبد الناصر ولغيره من قادة الامة العربية بأنها حركة جديرة بالثقة ، وأن دعمها بالسلاح بات ضرورة قومية، لقد كانت مصر السبَّاقة في فتح أبوابها للدورات العسكرية والامنية والتخصصية لتمكينها من بناء أجهزتها، كما أن المملكة السعودية بادرت لتقديم الدعم المالي لحركة فتح لتمكينها من استيعاب الطاقات الشبابية المقاتلة التي تدفـَّـقت على الأردن. كما تعاطف الاردن مع المقاومة، وسمح بإقامة القواعد الارتكازية، وبناء القطاعات العسكرية.
لا شك أن إنتصار المقاومة الفلسطينية قد حطـَّم اسطورة جيش الاحتلال ، وزرع الجرأة في نفوس القادة العسكريين للبدء بحرب الاستنزاف التي قادها الجيش المصري، لقد كانت معركة الكرامة ركيزة أساسية من ركائز التحولات في المنطقة، كما شكلت هذه المعركة بأبعادها المتعددة تحوُّلاً ملحوظاً وهاماً في مسيرة الثورة الفلسطينية .
إن ما صرَّح به الفريق مشهور حديثه قائد الأركان الاردني ، وقائد اللواء الذي شارك في معركة الكرامة هو دليل واضح على الدور التاريخي الذي اداه ياسر عرفات ومعه القيادة التاريخية: "أبو عمار فضـّل التمركز في الكرامة ، في بؤرة الخطر، خلافاً لما تمّ التنسيق عليه وكان ذلك حباً منه للتصادم مع اليهود والقتال وجهاً لوجه ، وهذا ما حدث صمد في قلب الكرامة... والحقيقة التي يجب أن تُقال أن الفدائيين وحركة فتح الفدائية قامت بأعمالٍ جريئة ومتقدمة رغم ظروفهم الصعبة وهي أعمال تستحق التقدير، وقد أدت إلى النتائج العظيمة التي أحرزتها معركة الكرامة... إنّ الفدائيين اشتبكوا بالسلاح الأبيض وجهاً لوجه مع الجنود الاسرائيليين داخل بلدة الكرامة، حملة أر بي جي قاموا بواجب عظيم وشكلوا مصيدة للدبابات الاسرائيلية" .
من الذين شاركوا في معركة الكرامة وتواجدوا في ميدانها حسب مصادر حركة فتح: الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات، أبو جهاد الوزير، أبو صبري ممدوح صيام، أبو علي اياد عمروش فلسطين، وهؤلاء من القيادة العسكرية، اضافة إلى ابو اياد صلاح خلف ، وأبو اللطف فاروق القدومي، وأبو حلمي الصياريني، وزكريا عبد الرحيم، وكوادر أبطالل من أمثال صلاح التعمري، وأبو علي مسعود، وصائب العاجز، وموسى عرفات الذي هوجم بيته في غزة وتمّ اغتياله ، ومن الشهداء في المعركة والذين دخلت أسماؤهم التاريخ المقاوم الفسفوري عبد المطلب الدنبك ، وابو شريف ربحي الاسطي، وعلي عياد ، وفتحي تمر ، وبشير داود ( ابو تمام ) وزهير جابر ، وسلامة محمود البورنو ، وسمير محمد الخطيب، وابو ابراهيم معليش، وعوض العدلي ، ومحمد ابراهيم ، وجميل ابراهيم البلعاوي ، وحامد المرة ، ومحفوظ شميط، وأحمد محمد شاكر، ومحمد دعاس عبيد، ومصطفى أحمد مصطفى وخليل ديب، وجميل مصطفى، وسعيد الأسعد، وعبدالله أبو السعود ، والشهيد أبو طير، والشهيد أبو أمية، والشهيد عدنان، وشحده فضيل ، وكل واحد من هؤلاء الأبطال كانت له قصص بطولية جهادية ، هذه البطولات حققت هذا الصمود وهذا الانتصار ، وانطلقت حركة فتح إنطلاقة جديدة وتميّزت بإستقبال عشرات الآلاف من المقاتلين في معسكرات التدريب، والقيام بآلاف العمليات العسكرية، وتقديم قوافل الشهداء، وانهت بذلك مقولة الجيش الاسطوري ، ليحلَّ مكانها حرب التحرير الشعبية ، وثورة حتى النصر.
لقد أثبتت معركة الكرامة أن القيادة الفلسطينية التاريخية التي جسَّـدها الرئيس الرمز ياسر عرفات كانت تمتلك الرؤية السياسية الواضحة، والقدرة على اتخاذ القرار العسكري، والنجاح في تقدير الموقف، كانت معركة الكرامة ومازالت عنواناً للكرامة الفلسطينية، وستظلُّ الفلسطينية وستظلُّ نبراساً مضيئاً على طريق الثورة والتحرير.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها