تحقيق: منال خميس- غزة

 

خاص/ مجلة القدس، "بدهم يشحتوا علينا "، قال بائع الفلافل الذي رفض تصويره، وهو يشير لمعاونه أن يبتعد عن عدسة الكاميرا. زميلي الذي يحمل الكاميرا استفزه الرد، لكن "أبو خالد" الذي يعتاش من بسطة الفلافل، ويبدأ يومه منذ الفجر حتى أذان العشاء، قال: “صار لنا  ستون سنة في المخيم ع هالحال، فقر وجوع وبيوتنا قربت تقع، الكل بيشحت علينا، وإحنا متل ما إحنا ليوم الدين".

 

قلت لزميلي، يبدو أنهم غير متأكدين من أن أحدا في العالم يسمعهم.

مثل جزيرة مفتوحة فقط على الشمس والسماء، بدا مخيم الشاطئ هذا الصباح، الريح جافة، صفراء تعبث بالشوارع، من كل الجهات تنشر الرمل والغبار في وجوه العابرين، والشمس تعامدت تصب حميمها على الرؤوس منذ العاشرة صباحا، رطوبة وحر...وازدحام كبير، والطريق حيث وجهتنا إلى منزل الحاج عبد الفتاح حميد (أبو علاء) في آخر المخيم مازال طويلا.

 

شوارع المخيم  الضيقة  تنفذ بك من منطقة إلى أخرى، وان كنت غريباً عن المكان ستحتاج إلى دليل لا يفارقك لأنك حتماً ستتوه في هذه الزواريب المتلاصقة والمتشابهة، وان وصلت إلى الجزء الشمالي من المخيم، الملاصق للبحر، (يطلقون عليه المخيم الشمالي) سترى منازل الصفيح، تسيل بانهيار تدريجي توشك أن تعانق الموج ونوارس البحر.

 

في وسط شارع السوق جلس ثلاثتهم، يلعبون "طاولة زهر" يقتلون بلادة الوقت غير مبالين بزحمة المكان حولهم، احدهم الذي انتبه للكاميرا، توقف عن متابعة اللعب ونظر إلينا، استأذناه لاستمرار التصوير، وافق بإشارة من يده لكن نظرته غير المحايدة لم تتغير. 

 

عمر السالمي أحد مناضلي المخيم القدامى المعروفين الذي له ولعائلته قبول كبير في المكان، نادى علينا بأعلى صوته، وبعد سيل من السلامات والتحيات دعانا لمنزله بشكل عفوي، اعتذرنا له مع وعد بزيارة أخرى. أثناء وداعه لنا كان أحد لاعبي طاولة الزهر، قد بدأ يخبط بعصبية الكرسي الذي كان جالسا عليه في الأرض، سألت السالمي، ماذا به؟ قال ضاحكاً، ما انتبهتي؟ كاسة الشاي وقعت من ايده وانكسرت. 

 

زحمة المكان شيوخ، كبار، صغار، شباب، نساء، تشعر كأن البيوت أفرغت من ساكنيها، سألت السالمي، "شو في كل المخيم برا الدار؟" قال "الناس مش طايقة الزينكو وحرارة الجو".

 

وفي مخيم الشاطئ أينما مشيت، في كل زقاق ستجد حميرا وأحصنة، وتكاتك "جمع توك توك"، من يوم أزمة الوقود والحمير والحصن والتكاتك بس هي إلي شغالة بالمخيم، أرخص وبتدخل بالحارات الضيقة بتوصلك لحد البيت"، أوضح أبو حسين الذي التقيناه على باب "الرائد" حلاق المخيم.

 

 ويعيش 90 ألف فلسطيني، في مخيم الشاطئ وقد أنشئ في العام 1949على مساحة 519 دونماً  وأصبحت الآن  747 دونماً ، ويقع غرب مدينة غزة إلى الشمال من رصيف الميناء على ساحل المتوسط.

على باب منزله استقبلنا بترحاب شديد الباحث المتخصص في شؤون اللاجئين، الحاج عبد الفتاح حميد (ابو علاء) مفوض عام لجان الإصلاح في قطاع غزة.

 

قال حميد انه من قرية اسدود الفلسطينية وهي إحدى مدن الكنعانيين الخمس، تصدت للاحتلال البريطاني عام 1884 مساحتها 47871 دونما، وقد طردت عائلته وغيرها من العائلات منها في 28/10/1948 يوم الخميس، وفي ثاني يوم صلوا الجمعة في مدينة غزة، وكان عددهم حوالي 6000 نسمة، ومنذ ذلك الحين تضاعف العدد ستة أضعاف.

 

حميد الذي وصلت عائلته الى غزة قال في حالة بائسة ان هذا كان حال جميع اللاجئين الفلسطينيين، تحملوا البؤس والحرمان وانعدام المقومات الأساسية لحياة البشر طيلة 65 عاما على أمل العودة إلى ارض الآباء والأجداد.

وتابع للقدس: "كنا حوالي 40 نفرا، أبي كان متزوجا من سيدتين الأولى لديها 20 فردا والثانية أنجبت 15 وكنا جميعا في خيمة واحدة، وكانت بعض العائلات بسبب الازدحام الشديد وعدم كفاية الخيام، كانت تقسم  الخيمة بين عائلتين يفصل بينهما بطانية، وكان كل ذلك بمساعدة من منظمة الكويكرز قبل إنشاء وكالة الغوث، وفي عام 1950 قام المجتمع الدولي الذي ساهم بإقامة إسرائيل بتأسيس وكالة الغوث وكان قرار إنشائها ينص على أن تقوم هيئة الأمم بإنشاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين حتى يتم إعادتهم الى ديارهم وأملاكهم التي طردوا منها تنفيذا لقرار 194. وبدأت الوكالة تنشئ مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة بالطوب الحجري والقرميد وكانت دورات المياه في الشوارع، وحنفيات المياه (الطرمبه) أيضا في الشوارع، وبرغم معاناتنا من سوء وتقليص خدمات الوكالة الآن الا أننا متمسكون بها لأسباب سياسية".

 

وقال: "لقد ولدت في الخيمة وتعلمت في أزقة المخيم الضيقة عانينا من الحرمان الثقافي والسياسي والعلمي والعملي وعشنا حياة بأس وبؤس  فرغم كل الآلام، فان المخيمات تشكل الحلقة المركزية في النضال الفلسطيني وهي الحاضنة الدافئة للثورة الفلسطينية المعاصرة لأننا نناضل من اجل العودة إلى ديارنا و أملاكنا".

 

حميد الذي عمل مدرساً ثانويا لسنوات طويلة لم ينس الفقر المدقع الذي عاشته أسرته، ولا ينسى يوم كانت أمه تستلم "صرة الملابس" التي تمنحها وكالة الغوث للاجئين مرة واحدة في السنة قال: "كنت افرح يوم ما تطلع أواعي من التموين، كنا نغيب عن المدرسة وكانت أمي تستلم صرة الملابس من المؤن وتفردها، وكنا نتخانق أنا واخواتي على الملابس، أحيانا ما يكون اشي يناسب مقاسي، لكن والدتي كانت تراضيني ببعض ملابس أخي القديمة، وأحيان ألاقي جزمة واسعة مش ع مقاس رجلي، كنت أحشوها ورقاً علشان اعرف ألبسها، أيضا كانت الوكالة أنشأت مراكز تغذية نسميها "الطعمة" وكان يوم عيد لما  يطلعولنا كفتة، كان الشاي للمريض فقط "دواء" واللحمة ما نعرفها، من وين؟ أقلك على حاجة لما انا كنت بتوجيهي كانت حياة أمي الله يرحمها، تعزني  بفترة الامتحانات كانت تسلق لي كل يوم بيضة، خلصت توجيهي وأنا أدرس على لمبة كاز نمرة 2، ولما دخلت الجامعة بالقاهرة لبست البنطلون الصوف لأول مرة، كان لي بنطلون واحد بس، أقلك خليها ع الله".

 

وكانت مأساة الحاج حميد تتشكل في الألم النفسي الذي يلازمه حين يغادر المخيم قال للـقدس: "كنا نروح ع ملعب اليرموك نتفرج عالمباريات، وكنت أتعلم بمدرسة الكرمل الثانوية، بتعرفي، مأساة مخيم الشاطئ انه ملاصق للمدينة وهذا اثر ع نفسيتنا، كنا نطلع  من مخيم بائس للمدينة، نشوف  فلل بحدائقها الواسعة والسيارات والمحلات التجارية، والملابس، والعز عند أبناء المدينة، كل هذا كان يترك حسرة وقهر وألم في نفوسنا إحنا أولاد المخيم".

 

وتحدث حميد عن فترة انتعاش أواخر الستينات في عهد الإدارة المصرية، قال: "شهد قطاع غزة طفرة اقتصادية لا بأس بها تعلمنا مجانا بجامعات مصر وهذا يسجل للشهيد الخالد جمال عبد الناصر، وصاروا أولاد المخيم اللي يخلص توجيهي بتوظف بإحدى الدول العربية ويساعد أهله، كان فترتها ترابط عائلي رائع، أيضا مصر قامت بتوظيف أبناء غزة  للعمل فيها ب 12 جنيه مصري".

 

واستذكر حميد، حين أصدر شارون قراراً بتوسيع شارع المخيم، مما أدى إلى هدم العديد من المنازل والخيام التي تمر منها هذه الشوارع، ومن ضمنها بيتهم، قال: "حملنا عفشنا وتوجهنا إلى هذه المنطقة، نصبنا ألواح زينكو وعشنا فيها، وكان بين فترة وأخرى يأتي جيش الاحتلال ويهدم هذه الألواح علينا، ونرجع نبنيه، كانوا يريدون ترحيلنا إلى العريش ولكننا صمدنا، أنا تزوجت في غرفة اسبست في بيت العيلة، لا كهرباء، ع الرمل مفش بلاط وبتذكر ذبحوا  أهلي بالمناسبة خروف، وكان المهر ألف ليرة إسرائيلي".

 

حين سألناه عن جودة خدمات وكالة الغوث في المخيم أجاب: "المعونات الغذائية كانت تحصل عليها العائلة مرة كل شهر وبحسب عدد الأفراد، والآن بدأنا نلاحظ أن الوكالة بدأت تتخلى رويدا عن قرار تأسيسها وهو إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وبدأت بتقليص الخدمات التموينية، وألغت مراكز التغذية كما ألغت 75 وظيفة عمل وتخلت عن مراكز وأندية الشباب، وبدأت تنهج سياسة لا تعبر عن حسن نوايا كما ألغت المعونات المالية للحالات الاجتماعية المعسرة، وقلصت خدمات التعليم والبيئة والصحة وكله موثق لدينا، كما وألغت أقسام الولادة من عياداتها، لا اختصاصيين بالعيادات، طبيب القلب يأتي مرة واحدة بالأسبوع، وإذا مرضت واحتجته اليوم مثلا ماذا افعل أموت؟ طالبنا الوكالة إدراج اللاجئين في حي الأمل بخانيونس وتل السلطان برفح، والشيخ رضوان بغزة، ومشروع بيت لاهيا بالشمال، وتسجيلهم للاستفادة من خدماتها ورفضت، لماذا تحرمهم الوكالة لأنهم يسكنون بيوت باطون؟ يوجد أيضا في قطاع غزة لاجئون غير مسجلين بسجلات الوكالة كلاجئين وهذا يسقط حقوقهم السياسية".

 

وواصل حميد بث غضبه على وكالة الغوث: "خطة خبيثة تحدث الآن وهي أن تتحول من وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين إلى مؤسسة NGOS، حذرنا من ذلك ولكن لا فائدة، ولا أحد يسمع، وبخصوص التقليصات تبرر الوكالة انه لا يوجد موازنة، إذن من وين أسطول السيارات للوكالة؟ مش على حسابي كلاجئ؟ ليه الموظف ما يركب لمكان شغله بشيكل هو أحسن مني؟ا وبعدين جربي تروحي ع مقر الوكالة، إجراءات أمنية مشددة جداً، صار أهون ع اللاجئ أن يدخل مقر البنتاغون من دخول الوكالة، اشي مش معقول، أسلحة وأسلاك شائكة وموظفون أمنيون كله هذا على حسابي أنا كلاجئ، الرواتب اقل موظف أجنبي راتبه 10 ألاف دولار إن ما كان اكتر وكله على حسابنا، عملنا اعتصامات واحتجاجات ولكن الوكالة ماشية في سياستها، لازم  نتضافر جميعا شخصيات اعتبارية وفصائل ضد نهج الوكالة في ناس بالمخيم ما ساترهم الا الحيطان".

 

حميد الذي أنجب خمسة من الأبناء والبنات، وأصبح لديه خمسة عشر حفيدا الآن، قال انه لن يسامح إلى يوم الدين، لا العصابات الصهيونية ولا بريطانيا ولا الدول العربية  ولا المجتمع الدولي الذين تآمروا علينا وساهموا في إقامة دولة إسرائيل.

 

وختم الحاج حميد حديثه للـقدس ببيت من العتابا: "قال الفلاح طلعنا ع راس تلة واعتلينا ... انجليز وأتراك ويهود وردوا علينا.. قولوا للوالدة ترضى علينا بلكي ربنا يخلصنا من الانقسام". ثم استدرك قائلاً: "إذا كانت قياداتنا الفلسطينية متألمة من ذكرى النكبة فلينهوا الانقسام. وذكرى النكبة المؤلمة لن تزول من أذهان جماهيرنا الا بكنس الاحتلال وعودة اللاجئين إلى ديارهم وأملاكهم التي طردوا منها عام 1948 ولن نقبل مقايضة بحق العودة".

 

غادرنا منزل الحاج عبد الفتاح حميد لنعود ثانية  إلى شوارع المخيم التي بدت في هذه اللحظة متناقضة فالكثير من المنازل 'الأسبستية' قد هدمت وبنيت منازل باطون من عدة طبقات على أنقاضها، بيت عال وبجانبه بيت أسبست يكاد يتهاوى، وهكذا.. لكن التصاق المباني وضيق الأزقة بقيت السمة الغالبة، حيث لا يمكن إخراج نعش ميت في بعض الأحيان.

 

وبحسب إحصائيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الاونروا" ففي البداية، استضاف مخيم الشاطئ 23,000 لاجئ من الذين فروا من اللد ويافا وبئر السبع والمناطق الأخرى في فلسطين. والمخيم اليوم يعد مسكنا لأكثر من 80,000 لاجئ يسكنون جميعهم في بقعة لا تزيد مساحتها عن 0,52 كيلومتر مربع فقط.

 

ووفقا للتعريف العملي للأونروا، الموجود على صفحتها على الانترنت، فإن اللاجئين الفلسطينيين هم أولئك الأشخاص الذين كانوا يقيمون في فلسطين خلال الفترة ما بين حزيران 1946 وحتى أيار 1948، والذين فقدوا بيوتهم ومورد رزقهم نتيجة حرب 1948.

 

  وتعد الخدمات التي تقدمها الأونروا متاحة لكافة أولئك اللاجئين الذين يقيمون في مناطق عملياتها والذين ينطبق عليهم هذا التعريف والذين هم مسجلون لدى الوكالة وبحاجة إلى المساعدة. كما أن ذرية أولئك اللاجئين الفلسطينيين الأصليين يستحقون أن يتم تسجيلهم في سجلات الوكالة. وعندما بدأت الوكالة عملها في عام 1950، كانت تعمل على الاستجابة لاحتياجات ما يقارب من 750,000 لاجئ فلسطيني. واليوم، فإن ما يقارب من 5 مليون لاجئ فلسطيني يستحقون التمتع بخدمات الأونروا.

 

في طريق عودتنا عند أول شارع السوق، بدا العجوز الجالس هناك كأنه في مكانه منذ آلاف السنين بنفس الوضعية ونفس الذاكرة ونفس النظرات، بدا كأن أحداً نسيه هناك، سألته "ليه يا "أبو تحسين" طفران؟"، أخذ نفس طويل من سيجارة ناوله إياها زميلي، "فش مصاري" قال.