بهجت أبو غربية في ذمة الله
27-01-2012
مشاهدة: 1927
لا شىء يمكن أن يلاقيه مناضل، أو أن يخوض غماره، لم يكن مر على بهجت أبو غربية وجرّبه، وكانت له فيه حكاية. سلخ الرجل نحو خمسة وتسعين عاماً تنوعت فيها أنماط الكفاح وعذاباته وخلجات السنين الأخيرة. خاض يافعاً، في العمل القتالي، وكان رفيق الشهيد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل التي سقط فيها، في الثامن من نيسان (إبريل) من العام 1948. قبلها عايش بهجت أبو غربية، ثورة 1936 الشعبية العارمة يوماً بيوم، وفي ذروة الدفاع الفلسطيني العسكري، بالإمكانات المتاحة في أواخر الأربعينيات، كان أحد القادة وأعمدتهم في جيش «الجهاد المقدس». جرّب معانقة الحلم القومي من خلال وسيلته الحزبية «البعث» وعايش فترة الإطاحة بتقاليد الحزب ومبادئه مع منيف الرزاز وتشاركا في المعاناة من سطوة العسكريين الانقلابيين، الذين سكنتهم مبكراً روح طائفية سرعان ما تداعت الى عائليات أصغر فأصغر تحت عناوين الأمة. وفي بدايات الحلم الكياني الفلسطيني، وتأسيس المنظمة، كان من أصحاب الأدوار المركزية التي تتطلب رؤية عسكرية وقتالية، فتركز اهتمامة على أمنية بناء الجيش الوطني وتنميته ليصبح قادراً على أداء دور طليعي في معركة التحرير. وما أن حلّت هزيمة 1967 حتى تحولت وجهته حيال جيش التحرير الفلسطيني، الى أسلوب حرب الشعب، وتحمس لقوات التحرير الشعبية، الجناح الفدائي للجيش، ومن ورائه الضباط المناضلون المساندون للثورة الفلسطينية، الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
بين مراحل تلك الحياة الخصبة، جرّب بهجت أبو غربية كل شيء ذي فائدة على طريق رفعة الفلسطينيين ونمو وعيهم وتأجج حماستهم. اشتغل في التعليم في «إبراهيمية» القدس، وعمل في الصحافة، وذاق معاناة سجن «المسكوبية» وذاق طعم السجون الشقيقة مرات ومرات، وكانت له تجربة اختفاء ومطاردة سلطوية، وشارك في تأسيس فصيل «جبهة النضال الشعبي» الذي بدأ نخبوياً ذا حضور مقدسي مكثف. ومن يقرأ مذكرات أبي غربية، الشيقّة، التي أصدرها في جزئين، باعدت بينهما عشر سنين، كان أولهما بعنوان «في خضم النضال العربي الفلسطيني» ثم «من النكبة الى الانتفاضة»؛ يعجب واحدنا لقدرة إنسان على استثمار وقت حياته في الخوض التفصيلي في كل شيء له علاقة بأمنيات الشعب الفلسطيني ووعيه ونضاله. بل إن مذكرات مثل هذا الرجل وأمثاله، هي أسفار نتمنى أن يطالعها الواهمون المتنافخون، ممن يجعلون أنفسهم فلتات التاريخ الفلسطيني، بينما هم جهاداً وعطاءً لا في العير ولا في النفير. ولم يفت بهجت أبو غربية ان يقرض شعراً عذباً. ولمناسبة الشعر، وعلى ذمة المرحوم بهجت، كانت باكورة القريض، في تجربته الشعرية، صرخة رفض واحتجاج على أمر عسكري بالانسحاب من خارج سور القدس من المنطقة الشمالية، الى داخل السور، وكان الأمر بتوقيع ضابطين واحدهما عراقي والآخر سوري «من جيش الإنقاذ» ومعهما توقيع المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، الشيخ مصطفى السباعي.
ظل الرجل، في معترك الحياة، يتحث بلغة المدركات الأولى وحقائق التاريخ. لم يستسغ طريق السياسة التي خالفت تلك المدركات أو تغاضت عنها. استأنس بشيخوخته لكي يتمكن من تعيين الفارق بين القبض على الحقيقة والجمر من جهة، والأكذوبة ومتاهاتها من جهة أخرى. لم تخذله الحقائق التي جاءت بما يفضح خواء الأكذوبة ولا صدقيتها. فارق العمل السياسي منذ أن اقترب ربابنة السفن من القرار 242 في بحر عالي الموج. خالف الخط السياسي لمنظمة التحرير من موقع تجربته ورؤيته ووعيه بمكامن القوة، التي يصح أن ينعقد عليها الرجاء في الأمة. كان ذاك هو رأيه، ومن ذا الذي يقوى على السجال مع رجل مر عبر كل الدروب، وخبر تعاريج السياسة، وتجرّع مرارة الخيانات كلها. ومن ذا الذي بمقدوره أن يقول له شيئاً سوى إن «رأيك صحيح لا يحتمل الخطأ يا عمنا أبا سامي».
اسلم بهجت أبو غربية الروح، متأبطاً أمنيته الأولى، وهو الذي عاش يرتب أحلامه صورة صورة. كان بهجت أبو غربية قد رأى النور للمرة الأولى في خان يونس التي ولد فيها، لأبيه عليان أبو غربية، الذي كان يعمل في الإدارة العثمانية. عائلته كما هو معلوم من الخليل، وهو من جزئها الذي يقطن القدس. عاش شبابه اليافع وتجاربه الكفاحية في زهرة المدائن، وأمضى خريف العمر على مقربة من الوطن في الأردن، وحيث يمكنه أن يرى جبال فلسطين وأضواءها وناسها الجائين والذاهبين، وأن يقاوم التطبيع وأن يبث الأمل.
لقد غادرنا آخر المخضرمين، لكنه ترك خواطره وتجاربه وسيرته مكتوبة، لكي يعرفها ويرى فلسطين من خلالها، كل الراغبين في الاطلاع على كفاح شعبنا. رحم الله بهجت أبو غربية واسكنه فسيح الجنان!.
عدلي صادق
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها