امس الموافق 26 يناير / كانون الثاني حلت الذكرى الرابعة لرحيل مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الدكتور جورج حبش. غاب الحكيم وبقيت ذكراه العطرة، ذكراه الوطنية والقومية والاممية. لان امين عام الجبهة الشعبية المؤسس، بقدر ما كان فلسطينيا بامتياز، بقدر ما كان عربيا بامتياز اعظم، وامميا، لانه آمن بأهمية تحالف قوى الثورة العالمية في انجاز مهام التحرر من الاستعمار والامبريالية بشكليها القديم والجديد. لادراكه العميق ان انتصار قوى الثورة في النطاق الوطني مرتبطة بنهوض حركة التحرر في النطاق القومي كما انها عميقة الارتباط بالنهوض بحركة التحرر العالمية. وكما اكد كل القادة العظام في التاريخ الانتصار للذات الوطنية، هو انتصار للقومية والاممية، لان الناظم للكفاح التحرري، هو البعد الوطني (القومي).

جورج حبش كان مدرسة في النضال الوطني، تميز بمصداقية عالية، وبنظافة الكف، وبالكفاحية الصلبة. لم يعرف المهادنة والوسطية، حتى انه ( وهي احدى نقاط ضعفه) غيب البعد التكتيكي من منهجه السياسي. وعندما كانت الهيئات القيادية تتخذ قرارا ينحو نحو التكتيك في لحظة سياسية محددة، كان يقبل هذا الموقف على مضض. لانه اعتقد ان الصراع مع المحتلين الاسرائيليين، الذين اقاموا دولتهم ومشروعهم الكولونيالي على حساب الشعب الفلسطيني ومصالحه وهويته الوطنية، وبهدف السيطرة على الارض والثروات العربية، لا يكون الا من خلال رفع كلفة الاحتلال وباستخدام كافة اشكال النضال وعلى رأسها الكفاح المسلح، مع ان الانتفاضة - ثورة كانون 1987- 1993 اعطت النموذج المتميز والهام للكفاح السلمي.

وكان حكيم الثورة مشدودا الى ابعد مما يتصور العقل، لعامل الوحدة الوطنية. ولم يغادر يوما خنادق الوحدة الوطنية، رغم انه شكل جبهة الرفض عام 1976، وجبهة الانقاذ في اعقاب اجتياح لبنان عام 1982، لانه كان يعتقد ومن معه من قيادة الجبهة والقوى السياسية الوطنية الاخرى المتوافقة مع رؤيته، ان تشكيل الاطر القيادية الفلسطينية على هامش منظمة التحرير الفلسطينية، لم يكن يراد به الاساءة للوحدة الوطنية، انما اراد تصويب مسار الوحدة والتوجهات السياسية الفلسطينية، ونتيجة تولد شعور بان السياسات التكتيكية التي انتهجها الرئيس الراحل ياسر عرفات، تؤثر على صعود المشروع الوطني نحو الاهداف الوطنية المقرة في المجالس الوطنية المختلفة. والدليل انه والجبهة الشعبية ومعهم الجبهة الديمقراطية فرطوا بجبهة الانقاذ وبالتحالف مع النظام السوري، حينما اراد السوريون تفكيك حركة فتح في ايار / مايو 1983 وتصفية الحساب مع الرمز ابو عمار. كما ان الحكيم وفي لحظة حساسة من الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية، وفي ظل وجود جبهة الرفض، وباحدى المناسبات الوطنية حضرها كل من حبش وياسر عرفات، وكان ابو عمار القى كلمة فلسطين، وبعد ذلك دعي الحكيم لالقاء كلمة باسم الرفض، صعد الى المنصة ، واعلن لفلسطين كلمة واحدة، القاها الاخ ابو عمار. وشكرا، ثم عاد الى موقعه. هذه الواقعة، تدلل على ان جورج حبش لم يحد يوما عن الوحدة الوطنية.

وقال امين عام الشعبية المؤسس، اننا نختلف مع ابو عمار ولكننا لا نختلف عليه. وانعكس هذا الموقف الشجاع في الانشداد للبعد الوطني على حساب البعد الفصائلي. ولم ترفع الجبهة الشعبية يوما السلاح في وجه فصيل وطني آخر، وخاصة فتح. واذكر ان بعض قيادات فتح (ابو هاجم ) قام في العرقوب (جنوب لبنان) بمهاجمة قواعد للجبهة الشعبية، وامتدت الى مخيمات شمال لبنان في البداوي والبارد، نتج عنها خسائر، مع ذلك لم تنجر قيادة الجبهة لدوامة الدم والزمت رفاقها بالتزام الصمت، وعدم الرد على مطلقي النار، مع ان قوة الجبهة الشعبية لم تكن اقل من قوة فتح.

هذه هي بعض سمات حكيم الثورة جورج حبش. الذي ولد مجبولا بالوطنية الصادقة، ومات وهو مسكون بها، لم تفارقه للحظة. الحكيم الذي اختلف معه رفاق درب كثر اثناء مسيرة الكفاح، بعضهم غادر مواقع الشراكة مع الحكيم من مواقع الحسابات الضيقة والشخصانية، رغم انه البسها ثوب الخلافات الفكرية والايديولوجية، وبعضهم توافق مع اجندات عربية، وبعضهم لحسابات اخرى، غير انهم كما قال ياسر عبد ربه، جميعهم وقفوا حول نعش الحكيم في وداعه الاخير.. وهمس ياسر عبدربه في اذن المناضل محسن ابراهيم: « ماذا تخلص مما ترى؟ قال : جميعنا اختلفنا مع الحكيم ، ولكننا لم نختلف على حبه، لانه الصادق فينا.» هذا ما اخبرني به ابو بشار في عزاء ابو ماهر اليماني في بلدية البيرة، الذي مرت ذكرى رحيله قبل ايام، وهو صاحب القامة الوطنية العالية، والذي اطلق عليه ابو عمار صفة «ضمير الثورة». كما انه هو من اطلق على جورج حبش صفة «حكيم الثورة».

رحم الله قادة الثورة العظام جورج حبش وابو عمار وابو جهاد وابو علي مصطفى وابو اياد وابو الهول وابو العباس وبشير البرغوثي وعبد الرحيم احمد وعمر القاسم وعبد الكريم حمد وغسان كنفاني ومحمود درويش وتوفيق زياد واميل حبيبي وماجد ابو شرار ومعين بسيسو وفضل شررو وكمال ناصر والقائمة تطول، الذين صنعوا فجر الثورة وصعدوا بها الى السماء، ومازالت القافلة الوطنية تسير وان كان بخطى متعثرة، ولكن راية الثورة لم تتوقف لحظة، ولن تتوقف إلآ بتحقيق الاهداف الوطنية في الحرية والاستقلال والعودة.