بقلم: إسراء غوراني
بعد مرور شهر كامل من العدوان العسكري الإسرائيلي المتواصل على محافظات شمال الضفة الغربية، الذي خلّف آلاف النازحين قسرًا وعمليات تدمير واسعة في مخيمات اللاجئين، ظهر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، يوم الجمعة، بجعبة عسكرية من مخيم طولكرم، متوعدًا بمزيد من التصعيد في الضفة، في صورة تدل على حجم الاستهداف غير المسبوق الذي ينفذه الاحتلال في مخيمات الشمال.
صور متلاحقة ظهرت لنتنياهو مع ضباطه وجنوده مجتمعين في أحد المنازل بمخيم طولكرم، والذي أجبر سكانه على النزوح قسرًا، وسبقتها بساعات صور أخرى لوزير جيشه يسرائيل كاتس في المخيم ذاته، مهددًا هو الآخر بمزيد من التصعيد والاستهداف.
وفي تصعيد خطير لسياسة التهجير القسري التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي، أعلن كاتس، عن نزوح 40 ألف فلسطيني من مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، بفعل العدوان الذي وسّعه ليشمل بلدة قباطية جنوب جنين، وعبر إدخال وحدات مدرعة إضافية تنذر بمزيد من القتل والتهجير والتدمير، بالتوازي مع تعليق أنشطة وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" في تلك المخيمات، ما ينذر بتفاقم الأزمة الإنسانية التي يواجهها آلاف النازحين.
وفي تصريح يعكس نية الاحتلال في فرض واقع جديد على الأرض، أصدر كاتس أوامر لجيش الاحتلال بعدم السماح للسكان بالعودة إلى المخيمات، مشددًا على بقاء قوات الاحتلال لفترة طويلة، تحديدًا في محافظتي طولكرم وجنين، مع تهديدات بتوسيع العدوان في محافظات أخرى في الضفة الغربية.
وكانت قوات الاحتلال قد شنت في 21 كانون الثاني/يناير الماضي عدوانًا عسكريًا على شمال الضفة الغربية بدأ بجنين ومخيمها، ثم توسع بعد أسبوع إلى طولكرم ومخيميها (طولكرم، ونور شمس)، فيما امتدت لاحقًا إلى بلدة طمون ومخيم الفارعة بمحافظة طوباس، حيث انسحبت قوات الاحتلال من طمون بعد أسبوع متواصل من العدوان ومن مخيم الفارعة بعد عشرة أيام، ولا يزال العدوان متواصلاً في جنين وطولكرم ومخيماتهما.
وتدل المؤشرات الأخيرة على تزايد الواقع سوءًا مع استمرار العدوان على شمال الضفة والتركيز فيه على مخيمات اللاجئين، في عدوان يعد الأطول بالضفة منذ الانتفاضة الثانية قبل ما يزيد على عقدين من الزمن، واتجاهه إلى سيناريوهات أكثر قتامة في المخيمات خلال المرحلة المقبلة.
- تصفية قضية اللاجئين
ويرى محللون أن ما تشهده مخيمات شمال الضفة من استهداف وما يتخلله من تدمير وتغيير لجغرافيا وديمغرافيا المخيمات، يدل على خطر غير مسبوق يهدف لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين عبر استهداف رموزها والشواهد عليها، وخاصةً أن استهداف المخيمات جاء متزامنًا مع استهداف الاحتلال لوكالة "الأونروا" وحظر عملها في القدس، الذي دخل حيز التنفيذ مطلع العام الجاري وما يتبعه من إعاقة لعملها في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي هذا السياق، يرى المختص بالشأن الإسرائيلي عصمت منصور أن نتنياهو وحكومته لهم تطلعات متعلقة بحسم الصراع في كل الضفة الغربية، ولكن يتم الآن التركيز على الشمال لحساسيته وموقعه الجغرافي سواء مع أراضي عام 1948 أو بالنسبة للحدود مع الأردن.
كما تطرق إلى تصاعد استهداف المخيمات خلال العدوان العسكري الإسرائيلي تزامنا مع استهداف "الأونروا" وحظر عملها، قائلاً: "لا شك أن المستهدف من تزامن هذين الأمرين هو تصفية أسس القضية الفلسطينية وفي مقدمتها قضية اللاجئين، والاحتلال باستهدافه للمخيمات يعمل على تحقيق أهداف عسكرية آنية، بالإضافة إلى تحقيق أهداف استراتيجية متعلقة باجتثاث أهم عنصر من عناصر قضية الشعب الفلسطيني وهو قضية اللاجئين كونها حافزا ومحركا دائما للنضال من أجل العودة".
وعن اقتحام نتنياهو الأخير لمخيم طولكرم في خضم استمرار العدوان على شمال الضفة، أكد منصور أن نتنياهو يريد من خلال ذلك توجيه رسائل على عدة أصعدة، أولها للداخل الإسرائيلي والاستعراض من خلال ذلك، وأيضًا يريد إرسال رسائل للشعب الفلسطيني أنه هو بنفسه يتابع هذا العدوان ويصمم عليه، فضلاً عن رسائله للعالم.
ويضيف: أن هذا يقود للتوقع بأن هذا العدوان سيكون طويلاً ومعقدًا، وذا أهداف بعيدة المدى، ومتعلقة باستراتيجية اليمين التي يشرف عليها نتنياهو بنفسه.
كما توقع أن تشهد الضفة مزيدًا من التصعيد والخنق والإفقار ووأد أي إمكانية للعيش فيها، فهذا أصبح واحدًا من أهداف إسرائيل وخططها بعيدة المدى تجاه الضفة، وهذا أمر يمكن ملاحظة كثافته في الآونة الأخيرة، كما أن الوزير المتطرف وزعيم الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش يعتبر هذه مهمة حياته، خاصة مع وجود مظلة دولية متمثلة بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي يتبنى هذه الأفكار من خلال محاولة شرعنة فكرة تهجير الفلسطينيين.
بدوره، يشير وكيل دائرة شؤون اللاجئين بمنظمة التحرير الفلسطينية أنور حمام، إلى أن استهداف مخيمات اللاجئين جزء من مخطط إسرائيلي كبير، وهو استهداف القضية الوطنية الفلسطينية من بوابة اللاجئين.
ويوضح حمام أن استهداف قضية اللاجئين يتخذ مسارين أساسيين تتجلى معالمهما في الوقت الراهن، وهما: استهداف المخيمات بالتدمير الممنهج باعتبارها الشواهد على النكبة، بالإضافة إلى استهداف "الأونروا" ومنع عملها باعتبارها تمثل الاعتراف الدولي بقضية اللاجئين.
واعتبر أن تزامن العدوان العسكري في شمال الضفة والتركيز على تدمير المخيمات وتهجير سكانها مع حظر عمل "الأونروا" لم يكن محض الصدفة وإنما ضمن مخطط معد سلفًا.
- استهداف لهوية المخيمات
عمليات تدمير خطيرة ينفذها الاحتلال على الأرض خلال عدوانه العسكري المتواصل في شمال الضفة، وما يرافقها من حديث عن تغيير جغرافيا وديمغرافيا المخيمات، بعد إجبار سكانها على النزوح، ثم تفجير أحياء سكنية كاملة، وشق شوارع عريضة، بدءًا بمخيم جنين ومن ثم في مخيم طولكرم.
وفي هذا السياق، يؤكد حمام أن الاحتلال بدأ على أرض الواقع بتنفيذ مخطط خطير للغاية عبر إعادة هندسة شكل ومكانة المخيم، وهذا يتضح جليًا في مخيم جنين، ويتوسع ليطال المخيمات الأخرى التي توسع إليها عدوان الاحتلال في شمال الضفة، مضيفًا أن هناك تهديدات حقيقية تهدف لشطب فكرة المخيم، وتحويل المخيمات بعد تجريفها وفتح شوارع كبيرة داخلها الى أحياء قريبة من المدن ودمجها بها، وبالتالي استهداف هوية المخيم ومكانتة، وعدم تمايزه كمعطى مكاني وتاريخي له خصوصية مرتبطة بالنكبة.
وعن خصوصية المخيم ورمزيته، يشير حمام إلى أن للمخيم رمزية سياسية وتاريخية ونضالية، كونه يمثل الشاهد على نكبة الشعب الفلسطيني، وهذا الشاهد تريد إسرائيل أن تجهز عليه، معتبرًا أن المخيم يمثل الوعاء الاجتماعي الذي أعاد الفلسطيني فيه صياغة وجوده بعد تهجيره من أرضه عام 1948.
- مشروع قديم
ويؤكد أن المشروع الإسرائيلي باستهداف المخيمات باعتبارها الشواهد على النكبة ليس مشروعًا جديدًا، بل تمتد جذوره إلى بدايات تشكّل هذه المخيمات، حيث شملت مختلف المراحل المفصلية في القضية الفلسطينية استهدافًا واضحًا لها، كما أن رئيس حكومة الاحتلال إبان الانتفاضة الثانية أرئيل شارون كان قد بدأ بمشروع شبيه وذلك عبر محاولة تدمير وتغيير معالم مخيمات قطاع غزة.
وبالرغم من أن استهداف المخيمات ليس حديثًا، لكن هذه المرحلة هي الأخطر، وفقًا لحمام، لأن الحكومة الإسرائيلية الحالية وهي حكومة اليمين المتطرف والصهيونية الدينية قائمة على حسم الصراع وليس إدارته، ومن ضمن أولوياتها طمس قضية اللاجئين.
وحول استهداف الاحتلال للأونروا وحظر عملها في القدس وامتداد تبعاته على عملها في الضفة وغزة، يوضح أن هذا الاستهداف للأونروا يأتي كونها تمثل الاعتراف الدولي والمسؤولية الدولية عن قضية اللاجئين، وإسرائيل تريد أن تقوِّض الأسس القانونية التي تقوم عليها قضية اللاجئين، علمًا أنها قضية تقوم على مجموعة من الحقوق المشمولة بمجموعة واسعة من القوانين وفق القانون الدولي، ولكن هناك قرارين مهمين جدا وهما قرار تأسيس الأونروا رقم 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقرار 194 الذي ينص صراحة على حقوق اللاجئين في العودة والتعويض.
وبالإضافة للجانب السياسي في استهداف "الأونروا" هناك استهداف من قبل الاحتلال للجانب الخدماتي الإنساني الذي تقدمه في مخيمات اللاجئين بالضفة الغربية وقطاع غزة، خاصةً أنها مع حرب الإبادة التي شنها الاحتلال على قطاع غزة أصبحت المزود الأكبر للخدمات في القطاع، ويتم الاعتماد عليها بشكل شبه كامل في الجانب الإغاثي، وبالتالي يعد قطع هذه الإمدادات وعدم انتظام وسلاسة العمل الإنساني والخدماتي بمثابة دفع المواطنين للهجرة خارج فلسطين بما يخدم مخططات الاحتلال في المرحلة الحالية.
وفي آخر المعطيات المتوافرة من دائرة شؤون اللاجئين بمنظمة التحرير حول انتهاكات الاحتلال في مخيمات الضفة تزامنا مع حرب الإبادة التي شنها على قطاع غزة، وثقت الدائرة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى 16 شباط/فبراير الجاري، ارتقاء 399 شهيدًا في مخيمات اللاجئين بالضفة (من أصل 919 شهيدًا في كامل الضفة)، كما وثقت في نفس الفترة 1246 جريحًا، و2368 حالة اعتقال، و935 اقتحامًا، وأكثر من 800 مبنى مدمر في مخيمات الضفة الغربية غالبيتها في مخيمات الشمال.
- عدوان غير مسبوق
بدوره، ينوه المستشار الإعلامي للأونروا عدنان أبو حسنة إلى أن ما تشهده مخيمات شمال الضفة الغربية خلال العدوان العسكري الإسرائيلي المتواصل هو "تصعيد خطير، وأدى إلى تهجير عشرات الآلاف من أماكن سكنهم في المخيمات، بالإضافة إلى عمليات التدمير الكبيرة للمنازل والبنى التحتية"، مؤكدًا أن عمليات التدمير التي طالت مخيمات شمال الضفة هي عمليات غير مسبوقة منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967.
ويضيف: هذا الاستهداف واستمراره ستكون له نتائج خطيرة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية كافة، بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من الشهداء والجرحى من سكان تلك المخيمات.
ويوضح أبو حسنة أن الأوضاع الإنسانية مأساوية لعشرات الآلاف الذين نزحوا من المخيمات، وفقدان هؤلاء لبيوتهم ومصادر رزقهم ستكون له تأثيرات كارثية، بالإضافة إلى حرمان آلاف الطلبة من التعليم، وحرمان العائلات من الوصول لخدمات الرعاية الصحية.
وتطرق لقوانين الاحتلال بحظر عمل "الأونروا" في القدس، حيث تم إغلاق مقر عمليات الوكالة في حي الشيخ جراح بالقدس، وهناك الآن محاولة لإغلاق المدارس ومعهد قلنديا والعيادات التابعة للأونروا في القدس، مضيفًا: "يبدو أيضًا أن هناك امتدادًا لتطبيق مثل هذه القرارات في الضفة، لكن حتى الآن المدارس تعمل والعيادات كذلك، فلن نتبرع بإيقاف عملياتنا على الإطلاق، ونحن لدينا تفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة لخدمة ستة ملايين لاجئ فلسطيني مسجلين لدينا في سوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة".
ويؤكد أبو حسنة أن "الأونروا" تتحرك على المستويات كافة بداية من الأمين العام للأمم المتحدة، وعلى مستوى الدول المانحة، وهناك اتصالات مع العديد من الجهات لتوضيح ما يحدث من دمار كبير، وحرمان لآلاف الطلبة من التعليم، وحرمان لآلاف العائلات من الوصول للرعاية الصحية، وهناك تنسيق بهذا الإطار بين مختلف المنظمات الأممية والوزارات الفلسطينية، مؤكدًا وجود استنكار كبير من المجتمع الدولي لما يجري حاليا في مخيمات الضفة وعمليات التدمير الكبيرة وتبعاتها.
- معطيات مقلقة
ووفقا لتقرير "آخر مستجدات الحالة الإنسانية في الضفة الغربية" الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بتاريخ 13 شباط/فبراير الجاري فإن "العملية الإسرائيلية التي بدأت منذ 21 كانون الثاني/يناير الماضي، هي أطول عملية تنفَّذ في الضفة الغربية منذ مطلع العقد الأول من هذا القرن".
ويوثق التقرير منذ 21 كانون الثاني/يناير وحتى 13 شباط/فبراير، "قُتل ما لا يقل عن 44 فلسطينيًا، بمن فيهم 25 في جنين، و10 في طوباس، و9 في طولكرم".
كما أورد التقرير نقلاً عن اليونيسيف "قلقها من تزايد عدد الأطفال الذين يُقتلون أو يُصابون أو يهجَّرون في شمال الضفة الغربية، ففي الشهرين الأولين من سنة 2025، قُتل 13 طفلاً على الأقل، من بينهم سبعة قُتلوا بعد العملية التي أطلقتها القوات الإسرائيلية في الشمال".
ونوه التقرير إلى "أن العمليات العسكرية الأخيرة تسببت في تهجير أكثر من 40,000 ألف لاجئ فلسطيني من مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس والفارعة".
يؤكد التقرير أن "الأونروا تواصل تقديم المساعدات الطارئة للأسر المهجرة خارج المخيمات، ولكنها اضطرت إلى تعليق عملياتها داخل المخيمات بالكامل. وبينما استُهل الفصل المدرسي الجديد في 2 شباط/فبراير، ما زالت 13 مدرسة تابعة للأونروا والتي تخدم أكثر من 5,000 طفل في شمال الضفة الغربية مغلقة".
وعن أوضاع المهجرين قسرًا من المخيمات يؤكد تقرير أوتشا: "يقيم معظم الأشخاص المهجرين حاليًا في مساكن مستأجرة. ولكن الأسر المهجرة عاجزة، وبدرجة متزايدة، عن تحمُّل تكلفة أسعار الإيجار الباهظة للغاية. ويقيم نحو مئة أسرة حاليًا في ستة مراكز إيواء عامة في طولكرم ونحو 65 أسرة في مركزيْ إيواء عامين في جنين، ولا يزال العمل جاريًا على إعداد خطط لإنشاء مركزي إيواء عامين في مدرستين في جنين لمعالجة الحاجة المتزايدة".
فيما أكد التقرير المخاطر التي تحف بالوصول إلى الرعاية الصحية "فلا تزال إمكانية الوصول إلى مستشفى جنين الحكومي ومستشفى ابن سينا في جنين محدودة للغاية، حيث تتعرّض سيارات الإسعاف للتفتيش والتأخير على مداخل هذين المستشفيين. كما يعاني مستشفى جنين من أضرار فادحة، بما فيها تحطيم مئة نافذة تستدعي إصلاحات عاجلة. فضلاً عن ذلك، تواجه سيارات الإسعاف التابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني تحديات يومية بسبب القيود المفروضة على الحواجز. كما عرقلت القيود المفروضة على التنقل قدرة العاملين الصحيين على الوصول إلى أماكن عملهم. وتشير التقارير إلى وجود نقص حاد في الأدوية الأساسية، وخاصة لدى الأشخاص الذين يعانون من الأمراض المزمنة، ما يزيد من تفاقم هذه الأزمة".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها