تُجسّد قرارات وتصريحات ترامب في الشهر الأول من توليه الحكم عقيدة التوحش، حيث يُرسّخ سلطته من خلال الهيمنة الرمزية والتعبئة الشعبوية، ويعيد تشكيل السياسة الداخلية والدولية عبر منطق القوة والإكراه. داخلياً، يعتمد على الإقصاء والانتقام من خصومه، بينما على الساحة الدولية، يُعزز دعمه غير المشروط لإسرائيل ويصعد التوترات مع جبهات دولية أخرى. كما يستخدم العقوبات كأدوات للهيمنة، محاولاً تفكيك المؤسسات الدولية وتحويل العلاقات العالمية إلى ساحة صراع، مؤسساً بذلك لمرحلة جديدة من الفوضى السياسية التي تخدم مشروعه السلطوي.

على الصعيد الفلسطيني، كانت تصريحات ترامب بشأن السيطرة على قطاع غزة وتهجير سكانه من بين أكثر القضايا الصادمة والمثيرة للجدل. وبينما واجهت تلك التصريحات رفضاً قاطعاً من القيادة والفصائل الفلسطينية، والدول العربية التي أكدت تمسكها بحقوق الشعب الفلسطيني وأرضه، لاقت تلك التصريحات ترحيباً حماسياً في إسرائيل، حيث اعتبرت خطوة لدعم الحكومة اليمينية المتطرفة ومخططاتها التوحشية والتوسعية في فلسطين والمنطقة.

وبعد أيام قليلة من تصريحات ترامب وما تبعها من ردود فعل فلسطينية وعربية ودولية، أعلن ترامب أنه لا حاجة للاستعجال في تنفيذ اقتراحه بشأن قطاع غزة. كما تراجع وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، عن خطة ترامب لإعادة توطين الفلسطينيين خارج القطاع، مشيراً إلى أن أي نقل للسكان سيكون مؤقتاً. فيما أعلن وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، أن وزارة الدفاع الأميركية مستعدة لدراسة كافة الخيارات المتعلقة بغزة، مؤكداً أن الرئيس مستعد للنظر في حلول جديدة وغير تقليدية.

عندما تتراجع إدارة ترامب جزئياً عن خطتها لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، ويُروّج للتهجير تحت مسميات مثل "إعادة الإعمار" و"العروض السخية"، فإن الهدف يكون اختبار ردود الفعل تمهيداً لإعادة طرح الفكرة بصيغ جديدة، مما يستدعي مقاومة دبلوماسية حازمة لصد هذه المحاولات.

رغم تأكيد الدول الأوروبية المستمر على دعم حل الدولتين ورفضها للسياسات الأميركية تجاه فلسطين، إلا أن مواقفها ظلت حبيسة التصريحات الدبلوماسية ولم تُترجم إلى إجراءات عملية ملموسة، فلم تتخذ هذه الدول أي خطوات حاسمة مثل فرض عقوبات على إسرائيل أو الدعوة لمحاسبتها دولياً، كما أن أكثر من نصف دول الاتحاد الأوروبي لا تزال مترددة ولم تحذُ حذو الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية. ويعود هذا التردد إلى الضغوط السياسية والعلاقات التاريخية مع إسرائيل والولايات المتحدة، مما يجعل الدعم الأوروبي قاصراً على التصريحات دون اتخاذ إجراءات فعالة على الأرض.

من جهة أخرى، يعتبر توحيد الموقف العربي الرسمي خطوة حاسمة لمواجهة محاولات فرض واقع جديد على القضية الفلسطينية. إذ أن التنسيق بين الدول العربية عبر الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي يعد أمراً أساسياً لتحقيق هذا الهدف، مع دعوة الدول المطبّعة مع إسرائيل إلى إعادة تقييم مواقفها. ففي حال اتخذت دول مثل الإمارات قراراً بتجميد أو قطع علاقاتها مع إسرائيل، سيكون لذلك تأثير كبير في مواجهة مشروع التطبيع الذي أطلقه ترامب، مما يعزز الموقف العربي على الساحة الدولية.

ويمكن أن يسهم توحيد الموقف العربي في الضغط المباشر أو غير المباشر على الدول الأوروبية لاتخاذ خطوات أكثر فاعلية تجاه القضية الفلسطينية. فعندما يكون الدعم العربي قوياً ومتماسكاً، قد يدفع ذلك الدول الأوروبية إلى إعادة تقييم مواقفها وتبني سياسات أكثر تأثيراً تجاه إسرائيل، بما في ذلك اتخاذ خطوات قانونية لحماية حقوق الفلسطينيين. وفي حال تضافرت هذه التحركات مع موقف دولي موحد، ستزداد الضغوط على إسرائيل، مما يعيد التركيز على القضية الفلسطينية ويعزز آمال الفلسطينيين في فتح مسار جديد نحو استعادة حقوقهم غير القابلة للتصرف.

وفي الختام، تظل الحاجة ملحة إلى تبني سياسات فعّالة تتجاوز التصريحات والشعارات، وتستند إلى إجراءات ملموسة تعيد الاعتبار للقانون الدولي وتحقق العدالة للفلسطينيين. إن العالم اليوم بحاجة إلى خطوات حاسمة من القوى الدولية، وفي مقدمتها الدول الأوروبية، إذ لا يمكن تحقيق السلام في المنطقة ولا العالم إلا من خلال لجم تصرفات إسرائيل ووقف الدعم الأميركي غير المشروط لها، فضلاً عن تفعيل آليات قانونية تضمن حقوق الشعب الفلسطيني وعلى رأسها حقه في تقرير مصيره على أرضه وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس.