غزة دائماً كانت مدرسة تُبدع في اختراع المعاني للكلمات، تصنع لغتها الخاصة التي تنبثق من عمق معاناتها وتجربتها الطويلة مع الاحتلال والطغاة. منذ البدايات، وحين وطأت أقدام الاحتلال القذرة أرضها، كانت غزة تسقط دون أن تستسلم في كل مرة كما اليوم أيضًا، وما قبل ذلك حين هاجم الاستعماري البريطاني "اللنبي" غزة عام 1917 مرورًا بمرحلة نشأة الفدائيين نواة جيش التحرير الفلسطيني زمن الشهيد كمال عدوان وإخوانه، وفي زمن معين بسيسو وعبد الرحمن عوض الله ورفاقهم لإسقاط مؤامرة التوطين وما تبعها حين تعاظمت مقاومة قوات التحرير الشعبية التي انضمت إلى حركة "فتح" لاحقًا بقيادة زياد الحسيني وأبو علي شاهين، وبعدها ما سطرته أسطورة جيفارا غزة في سبعينات القرن الماضي حين قاد مقاومة الجبهة الشعبية هنالك، فكانت غزة يحكمها الفدائيين ليلاً دون أن تُهزم، وكانت غزة تقاوم دومًا وتنتصر من أجل كرامتها وعزتها.
كانت غزة تقدم تعريفات جديدة للمقاومة والصمود والبقاء، وتُبدع بالأشكال المختلفة منها، لتنطلقت لاحقًا شرارة انتفاضتنا الكبرى وصعدت قوى المقاومة تُعيد صياغة معاني المقاومة الشعبية والفداء، وتكتب دروساً في الكرامة والنضال بدماء أبنائها من كافة الشهداء فكان من بينهم الشيخ الجليل أحمد ياسين ليتبعه بعدها الرئيس المؤسس الخالد أبا عمار، الذي لا نريد له الابتعاد عنا كما كل الشهداء كلما ابتعد ذلك الماضي الجميل، كان إن خاض المعركة في بيروت الصمود والحصار قبلها ليخرج بعدها نحو استكمال مرحلة التحرر الوطني التي ما زلنا نسير فيها بواجب إنجازها.
واليوم، تُضيف غزة إلى قاموسها مصطلحاً جديداً هو "فرح الناجين". إنه نوع فريد من الفرح ، ليس كباقي الأفراح. فرح يصنعه مَن نجا من أتون المحرقة، ومن خدع الموت فبقي حياً ومن قاوم واستشهد أو بقي ينتظر المصير، من نزح ومن جاع.
فرح من تحدّى القصف والجوع والبرد، فصمد ونجا، حتى لو بقيت روحه معلقة ومثقلة بخسارة بيت أو استشهاد حبيب من قوافل الشهداء الذين ذهبوا ليصبحوا نجوم في سماء فلسطين ننتظر عودتهم أو لقائهم يومًا، كما ستلتقي العائلات بعدد من أبنائها الأسرى الأبطال بعد حريتهم، في وقت كنا جميعًا نرغب ونتمنى بأن نلتقيهم جميعًا، لكنه يوم آتٍ لا محالة لنقيض الإجرام من حجم الحق والحرية.
فرح غريب، مزيج من الحُزن والخوف والألم، لكنه مع ذلك يحمل شُعلة أمل. فرح يُعبرون فيه ونُعبر نحن معهم عنه بدموع حارقة، دموع تُخبرنا أن الفرح في غزة ليس إلا شكلاً آخر من الصمود والبقاء، رسالة تُعلّم العالم معاني جديدة للصبر والإرادة حتى الانتصار.
وكأن غزة، في لحظة انفراجة الألم، تُجسد أسطورة طائر الفينيق، تنهض من تحت الرماد، تحمل جراحها وتعيد تشكيل نفسها، تتشبث بالحياة لتنهض من جديد أقوى وأجمل. فالقصة الكنعانية تقول: أنه عندما يشعر هذا الطائر بدنو أجله يقوم ببناء عش من جذوع الأشجار ويُضرم النار فيها ويطلق لحناً تسمعه جميع مخلوقات الأرض والآلهة ومن ثم يحترق وبعد أن يبرد رماده ينبعث طائر فينيق جديد من الرماد ليكون أقوى.
فقد سمعت كل شعوب الكون صوت غزة عند الاحتراق، فوقفت متضامنة متكاتفة مع شعبنا وبإدانات غير مسبوقة لدولة الاحتلال وأشكال عزلها ومقاضاة قادتها المجرمين. سيبرُد الرماد وينبعث شعبنا أينما كان من جديد ليكون أكثر حكمة وأكثر اصراراً للوصول إلى ما هو غير قابل للتصرف من الحقوق التاريخية والسياسية.
ورغم أن المعركة لم تنتهِ بعد وكفاح شعبنا سيستمر بانتباه للمخاطر والتحديات، فإن غزة في كل مرة تُعيد رسم صورة جديدة للحياة، لوحةً تزدان بالأمل رغم سواد الجراح، لتبقى رمزاً خالداً للإرادة التي لا تُقهر إلى الأبد مهما حاول طغاة العصر من فنون الشر والظلم بالإبادة والتهجير، نحو تجسيد حلم شعبنا بالحرية والاستقلال الوطني الديمقراطي لشعب موحد وفي وطنٍ واحد لا نملك سُواه، ليكون حينها الانتصار.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها