نحن على يقين بأن الخبراء في علوم السياسة، والاجتماع والنفس، ومؤرخي مسيرات حركات التحرر العالمية، مشغولون في هذه اللحظات، بالبحث العلمي والمنطقي، عن أسباب ديمومة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" وتحديدًا الأسباب التي تجعلها تشبه دورة الحياة اليومية والسنوية، فالحركة كالفجر والصبح تطلع من جديد، مهما كان ظلام الليل دامسًا، وكالربيع تبث الحياة في الأرض والطبيعة، والأمل في النفوس، مهما بلغت قساوة الخريف وتقلباته، وما يليه من صقيع وزمهرير الشتاء وعواصفه، وكشمس الصيف، تمنح الضوء باعتدال لنمو وتعاظم (البر) بكسر الباء و(البر) بضمها، وتنفذ إلى أعمق الزوايا المعتمة، مهما كانت بعيدة، أو معقدة بشبكة دهاليز وأنفاق، ففتح حركة فيزياء طبيعية، وكيمياء محبة إنسانية، ورواية عشق، ومعلقة شعر، وقصة افتداء بعنوان واحد، يُقْرَأ كما يشاء العارف بالأبجدية وكلماتها، ومعانيها المقدسة: "الوطن إنسان" أو "الإنسان وطن".
بعد عقد واحد على نكبة 1948، بدأت قلوب أعضاء الخلية الأولى تنبض على إيقاع مبدأ الانتماء والولاء للوطن فقط، بعد تسليم عهدة الأحزاب والجماعات العربية إلى أصحابها، وعاهدوا شعبهم، أقسموا بالإخلاص لفلسطين، والعمل على تحريرها، فاستبقهم المتوجسون خيفة، ومحترفو التشكيك، وصناع الإحباط واليأس، والمتاجرون والمقامرون، بورقة الحق الفلسطيني، بوابل الإشاعة والتحريض، والاتهامات بالتخريب، والتوريط، والإغراق، لكن عزيمة ومثابرة المناضل الثائر المتعلم المثقف كانت أقوى، وامتلكوا شجاعة الاستمرار بتأسيس التنظيم، والنظام كقانون، لإطلاق شرارة الثورة، وكان الفاتح من العام 1965 الشاهد التاريخي على استعادة الشعب الفلسطيني لروحه الوطنية بقوة، واللحظة الفارقة التي جعلته يقوى على مغادرة غرفة الموت السريري، إثر جريمة النكبة، وغرق الشارع الفلسطيني والعربي بالسؤال علنًا: "من هؤلاء؟!".
فجاء الجواب مع أول يوم في ربيع الطبيعة، تحمل بشائر استعادة الكرامة المهدورة، في الحادي والعشرين من مارس/آذار 1968، مع اكتمال (حمل) القرار بالصمود، والمقاومة، بعد مرور تسعة أشهر على نكسة حزيران 1967. فعلم من كان ليس على علم، أو لا يريد أن يعلم، وسمع من كان يائسًا، عندما شاهد حطام مقولة "الجيش الذي لا يقهر"، في معرض آليات جيش الاحتلال الاسرائيلي، في ساحات العاصمة الأردنية عمان، فالجماهير كادت أنصارها تذبل من رؤية صور الهزيمة المتتالية، منذ احتلال فلسطين. لكن الفدائي الفلسطيني، والجندي الأردني، أعادا لشخصية العربي النبيلة، فخرها واعتزازها وثقتها. يومها لم يتحدث أحد عن "انتصار مطلق" ولم تهدَ دماء الفدائيين الفلسطينيين والجنود الأردنيين الشهداء لرؤساء دول، ولا إلى قادة جماعات، وإنما مدادًا لكتابة التاريخ الفلسطيني والعربي من جديد.
وبدأت عجلة المؤامرة بالدوران، فحاولوا شق فتح التي وصفها زعيم مصر والقومية العربية جمال عبد الناصر "أنبل ظاهرة وجدت في الأمة العربية"، واستكملها قائد الثورة ياسر عرفات "أبو عمار" - رحمهما الله – بقوله: "وجدت لتنتصر".
لكن حركة التحرير الوطني الفلسطيني، في الحقيقة كانت طبيعتها، ونقاء دورة الحياة في جسدها، تتخلص تلقائيًا من أدران مسمومة، ومثل شجرة طيبة يسقط ورقها المريض، ويتآكل فرع أضعفته حشرات المخابرات المعادية للثورة فيسقط غير قابل للحياة من جديد أبدًا.
أعداء الشعب الفلسطيني، ومعهم المتخندقون في الجبهة المعادية للتحرر، والهوية الوطنية الفلسطينية، ضربوا حركة فتح بأقصى طاقاتهم العسكرية والأمنية والإعلامية، وتعاونوا مع منظومة الاحتلال لشد الطوق وتضييق الخناق على رقاب المناضلين، واصطنعوا أدوات ومنحوها أسماءً مستخرجة من مصطلحات وطنية، ودينية، ووضعوها كألغام في دروب حركة التحرر الوطنية، لكن فتح بقيت ممسكة بمقود كاسحة الألغام: منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بوعي واقتدار، وحكمة وتبصر، والالتزام الحديدي بإعلاء المصالح العليا للشعب الفلسطيني فوق كل اعتبار، فهذه الكاسحة مسيرة بطاقة القرار الوطني الفلسطيني المستقل، لا يقوى السلاح النووي على تدميرها، ذلك أن الشعوب الحرة، ذات الجذور الحضارية، والثقافة الإنسانية، لا تفنى أبداً، وكذلك فتح، لمن أراد معرفة سر ديمومتها، فالجماعة أيًّا كانت درجة تماسكها، آيلة للسقوط حتمًا ولو بعد حين، أما حركة التحرر الوطنية، فبالغة أهدافها، يسيرها عقل وطني، وإيمان لا يتزعزع بارادة الشعب، كل الشعب.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها