يا إلهي، أي عماء هذا، أي حقد، أي وحشية، أي عربدة، لم يعرفها تاريخ البشرية، ولم يعرفها تاريخ القيم، ولم تعرفها وحوش الغابات والأودية، أي تعاليم، أي ثقافات تدعو إلى كل هذا الدم الذي سفكتموه في كل مكان، وفي كل وقت، وأي مشاهد تتركونها خلف همجيتكم هذه، جثث في الشوارع، جثث في البيوت، جثث في المدارس، وفي المشافي، وقرب الشواطئ، وفي الحفائر، وبين الأشجار، وفي الرمال.
بلى، أيها العميان، هذا الذي تقصفونه بالطائرات المجنونة هو مشفى، وليس منشأة نووية، أو مطاراً عسكريًا، أو مستودعات للذخيرة، أو حقل ألغام، أو ثكنة عسكرية، أو معسكرًا للتدريب، أو ورشة حدادة، إنه مشفى ألا ترون سيارات الإسعاف، وعربات الجر (الكارو) وفوقها الجرحى، ألا تسمعون الصراخ الذي عمّ الكون كله، ألا ترون الناس يتراكضون هنا وهناك، يصرخون، ويتساءلون، ويبكون ويروون، ألا ترى الدماء التي تسحّ من تحت أبواب سيارات الإسعاف، ومن فوق عربات الجر، ومن معاطف الأطباء البيضاء.
هذا مشفى كمال عدوان، الذي اغتلتموه في بيروت، هذا اسمه البارق بالخط العريض، يعلو فوق هامة المشفى، إنه نجمتنا، والباقي فينا، والحارس لذاكرتنا، والروح العزوم التي تسري في الهواء الذي نتنفسه.
إنه مشفى، يداوي الأطفال الرضع والخدج، مشفى فيه حواضن للأطفال الذين لم تمهلهم الحرب كي يتمموا نموهم، كي يولدوا طبيعيين، الخوف، والتنقل، والجري، وقلة الغذاء والدواء، والرعاية. كلها، جعلت أمهاتهم يلدنهم في لحظة خوف واحدة، وفي زفرة واحدة، وفي تنهيدة وجع واحدة، إنهم أطفال أشبه بصغار الطيور، أسمتهم أمهاتهم اللواتي لم يمتن، أم اللواتي جرهن نزيف الدم إلى الموت، إلى المقابر، فقد أطلقت ممرضات المشفى عليهم أسماء ما يجول في صدورهن من أمنيات.
إنه مشفى، رغم كل شيء، رغم فقد الأدوية، والأغذية والطمأنينة، إنه مشفى، على الرغم من أنه غدا جسر عبور للأطفال كي يصلوا إلى قبورهم هادئين سالمين.
إنه مشفى، حرقتم ما حوله من بيوت، ومدارس، وخزانات ماء، وشوارع، وأسواق، وأبراج. وأفردتموه وحيدًا، ليس من أجل أن تتركوه أو تحيدوه، بل من أجل أن تجعلوه دريئة تصوبون إليه قنابلكم وصواريخكم، وحقدكم، ووحشيتكم، وحرائقكم.
يا أيها العميان، أي خلق أنتم، ومم تكونتم وتشكلتم، وأي حياة قتل ودمار ومقابر وخراب وعنصرية وحقد تعيشون.
أيها العميان، هذا الذي تقصفونه، وتطاردونه، وتخوفونه هو بحر جباليا، والصفطاوي، والرمال، وتل الهوى، إنه بحر، فكيف تحرثونه بقنابلكم وصواريخ طائراتكم. أي جنون هذا، أي هستيريا، أي بلاهة، أي حامضية تجول في صدوركم وحلوقكم وقلوبكم وعقولكم.
وهؤلاء الذين تقصفونهم وتطاردونهم هم صيادون شعث غبر، متجردون من الثياب، يؤاخون الليل، وليس معهم سوى شباكهم، وقناديلهم، وسلالهم، وغنائهم المر الحزين كيما يألفهم السمك، يرجون الله، بالدعاء الحميم، ألا يخيّب ظنهم فيعودون إلى صغارهم ببعض السمك، ما أبغض عودة الآباء لأبناهم وأيديهم فارغة.
وهذه التي تقصفونها بشراسة وتحرقونها بقنابلكم، هي قوارب الصيادين، وليست مدمرات أو غواصات نووية، إنها قوارب تأخذها الرياح وتدفعها الأغنيات من الشاطئ إلى داخل البحر، وتعود بها إلى الشاطئ. هذه قوارب خشبية، إنها سلالم وأدراج يجوز بها الصيادون دروب البحر كي يصلوا إلى السمك الذي أخفتموه، فشرّد، وهجر، ونفر لأنكم سمّمتم البحر برصاصكم وقنابلكم، ولأنكم ملأتم عالم البحر بروائح البارود.
أيها العميان، هذا بحر غزة، كف الله الطرية، ملحه الذي جعل الأرض ذاكرة، ورمله البارق مثل الذهب، وهذه أجمات قصبه التي غدت شفاهاً تغني كلما هزّها الألم، وهي ريحه العاصفة الجوالة التي تخبر العالم كلّه، عنكم، وعن عنصريتكم، وعدوانيتكم. وأنتم تطلقون الرصاص على الأمواج، أو ترمون القنابل الذكية على تلال الرمال، وجموع الصخور، وثبج البحر، أي هوس هذا، أيها الأخرقون.
أيها العميان، هذه البقعة التي تقصفونها، هي معبد، كنيسة، إنها المعمدانية، وهؤلاء الناشطون حولها، وأمامها، وخلفها ليسوا نملاً، إنهم بشر يستقبلون العيد بالتراتيل، إنهم يعرفون معنى العيد، والفرح، والبهجة رغم حبال الموت التي تدلونها من طائرات (الكواد كابتر)، ورغم حرائق الألم التي تدفعونها إلى مقربة من البيوت على شكل (روبورتات) برميلية كي تنفجر في الصباح مع نشور الأطفال.
إنها كنيسة، حنت عنقها لأبنائها كي يطوقونها بقلائد العيد، وتركت صدرها الوسيع للأشرطة الملونة الراقصة في الهواء الرهو (تباً لكم حتى الهواء يبّستموه)، وأرخت يديها كيما تتزين بالأساور والحناء. إنها كنيسة، وعيد، وخلق، وزينة، وأغنيات، وموسيقى تتهادى مثل الغيوم من النوافذ، وتراتيل تسمّي السماء سماء، والأرض أرضاً، البشر بشراً، والحب حباً، والشر قنابل وصواريخ. إنها كنيسة، وقيدة محبة، وكتاب صلاة، وإنه عيد، ارتجافة قلوب ترجو طلوع الشمس المشتهاة.
أيها العميان، ماذا تقصفون، وبالبراعة التامة، والذكاء الحموق؟ أهذا المسجد الذي يجاور الكنيسة بالتكبيرات، والأدعية، والصلوات، والركوع الحامد، والسجود الشاكر، والأذرع المرفوعة الراجية المنادية يارب، يارب.
أيها العميان، أي خلق أنتم؟!
أيها العميان، هذه التي تقصفونها بأطنان الحديد والبارود، ليست سفينة تجري في البر، ولا هي قرية تزحف ببطء بعيدًا عن جحيمكم، هذه دراجة هوائية، اعتفرت غضباً، فصارت على هذا النحو المهول، الفرش فوقها، والبطانيات، وأكياس فيها بواقي برغل ورز وملح وزعتر وسكر وبابونج وميرمية، وفوقها حبل البئر، والدلاء، ومكنسة، وبعض أواني الطبخ، وحصير بلاستيكية، وبعض الثياب، وكتب الأولاد الذين قتلتموهم التي ستظل حافظة للذاكرة، ونعمة للبصر ترينا خطوطهم الحائرة القائلة: يا سوزان قولي عاش بابا الشهيد.
هذه دراجة هوائية، فوقها ألواح الزينكو، وفوقها ما تبقى من بواقي البيت الذي دمرتموه.
أيها العميان، هي كلمة: لن تجدوا، مهما حاولتم، عصا تقودكم إلى انتصار.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها