في أعقاب إصدار محكمة الجنائية الدولية يوم الثلاثاء 21 تشرين ثاني/نوفمبر الماضي مذكرات اعتقال لكل من نتنياهو وغالانت قامت الدنيا ولم تقعد في إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وساد جو من الترهيب والتحريض والتلويح بفرض عقوبات على المدعي العام للمحكمة وقضاة المحكمة الابتدائية، الذين أصدروا المذكرة، ومن بين المواقف الملفتة وتستدعي التوقف أمامها، تصريح للسناتور الجمهوري في مجلس الشيوخ، ليندسي غرهام مسجل على شريط فيديو نشره موقع الجزيرة يوم الثلاثاء 28 من الشهر الماضي، جاء فيه: أن غزة ليست جزءً من الدولة الفلسطينية، واعتبر موقف المحكمة الجنائية الدولية بهذا الشأن "مجرد خرافة قانونية"، ووجه سؤالاً للمحكمة "أعطوني جوابًا من هو زعيم الدولة الفلسطينية؟ وما نوع الحكومة التي تمتلكها؟". وأضاف: "لا يمكنكم الإجابة على هذه الأسئلة"، وهدد بالعودة إلى مجلس الشيوخ لملاحقة الدول بغض النظر عن هويتها وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وفرض العقوبات عليها في حال نفذت اعتقال رئيس الائتلاف الإسرائيلي الحاكم ووزير حربه السابق في تحدي صارخ لإحدى المحكمتين الدوليتين الأعلى في العالم.
ولم يكن هذا التصريح الأول للسيناتور الجمهوري ضد الشعب الفلسطيني، بل كان له تصريح أكثر وحشية، عندما دعا إسرائيل في 15 أيار/مايو الماضي بإلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة لإبادة أبناء الشعب، معمقًا تصريح الوزير الإسرائيلي عميحاي الياهو، الذي طالب حكومته بإلقاء القنبلة النووية على الشعب في غزة في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

من المؤكد أن موقف غرهام وغيره من المسؤولين الأميركيين بدءً من رئيس الإدارة الأميركية ووزرائها، مرورًا بأعضاء المجلسين "الكونغرس والشيوخ" بشكل فردي أو جماعي لم يكن مفاجئًا لأحد ممن يعرفون طبيعة العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة، زعيمة الغرب الرأسمالي وأداتها الوظيفية واللقيطة إسرائيل، الذين اعتبروا أن محكمة الجنائية الدولية ليست ذات صلة، كما أنها لا تتمتع بولاية قضائية. في حين أن المؤسسات الأميركية القيادية بمستوياتها ذاتها، عندما أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال الرئيس السوداني الأسبق عمر حسن البشير، رحبت الولايات المتحدة بالقرار، وطالبت باحترام قرارها وتنفيذه. والأمر ذاته تم مع إصدار مذكرة اعتقال ضد الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، واعتبروا ذلك نقطة قوية، ودعموا القرار، واعترفوا بولايتها القضائية، يا سبحان الله.
هذه المواقف المتناقضة تجاه المحكمة الجنائية من قبل واشنطن وزعمائها من الحزبين، والأشخاص الذين أصدرت مذكرات اعتقال بحقهم، تدل على الكيل بمكيالين، وازدواجية المعايير، وفيها قلب للحقائق والمعايير الأخلاقية والقانونية والسياسية. لأنهم يخشون أن تطالهم الملاحقات القانونية، كونهم شركاء في الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني ليس هذا فحسب، بل لأن الإدارة الأميركية والمجلسين تورطوا في الدعم المعلن للحكومة الإسرائيلية وحربها الهمجية غير المسبوقة في العصر الحديث، واتخذوا سلسلة من القرارات في تسليح وتمويل الإبادة وحتى الآن وغدًا وإلى ما شاء الله، وتبنوا الرواية الإسرائيلية، وقادوا حملة إعلامية وديبلوماسية وقانونية لدعم دولة إسرائيل المارقة والخارجة على القانون.
وبالعودة لتصريح السيناتور الأميركي غرهام، حول غزة ومكانتها القانونية والسياسية والجغرافية والديمغرافية، أؤكد له، أنها جزء لا يتجزأ من الأرض والوطن الفلسطيني المحتل بعد الرابع من حزيران/يونيو 1967، وهي ركن أساسي من الدولة الفلسطينية المحتلة، ولا يمكن فصلها عنها، ومصيرها متربط ارتباطًا عضويًا بها. وأبناء شعبنا في قطاع غزة، هو جزء أساسي من الشعب الفلسطيني، ولا يمكن لكائن من كان أن يفصله عن النسيج الوطني والاجتماعي الجمعي للشعب صاحب الأرض والتاريخ والموروث الحضاري الفلسطيني. وأيًا كانت التعقيدات التي شهدها القطاع خلال العقدين الماضيين نتاج انقلاب حركة حماس على الشرعية الوطنية عام 2007، ولا يمكن المس بالحقيقة الثابتة والراسخة كون قطاع غزة، جزءً أساسيًا من الوحدة الجغرافية والسياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية للوطن والدولة والشعب والقضية الفلسطينية. لا سيما وأن الولاية الأساسية على القطاع تنحصر في منظمة التحرير الفلسطينية والدولة والحكومة المركزية، وهي التي تقوم بمسؤولياتها الكاملة تجاه أبناء شعبنا في محافظات غزة الجنوبية على المستويات كافة. كما أن قرارات الشرعية الدولية التي تزيد عن الألف قرار جميعها تؤكد هذه الحقيقة العميقة.

وزعيم ورئيس الدولة الفلسطينية المعترف به دوليًا وإقليميًا وعربيًا، هو سيادة الرئيس محمود عباس، ولا يوجد زعيم آخر للشعب الفلسطيني، ومن يعتقد غير ذلك فهو واهم، ولا يفقه في ألف باء الواقع الفلسطيني، وبالتالي ما ذكرته محكمة الجنائية الدولية، وقبلها فتوى محكمة العدل الدولية في 19 تموز/يوليو الماضي، التي اعتمدتها الجمعية العامة في أيلول/سبتمبر الماضي بأغلبية 124 صوتًا تؤكد هذه الحقيقة الدامغة. وهو ما يتطلب من السيناتور الأميركي اليميني المتطرف إعادة النظر في موقفه، والكف عن قلب الحقائق الكاذبة والمشوهة، لأن حقائق التاريخ تفقأ عينيه وذاكرته المثقوبة والعفنة.