بقلم: حاتم أبو دقة

حلت الخيام بديلاً عن الزراعة في مواصي رفح وخان يونس للموسم الزراعي الثاني على التوالي بسبب حرب الإبادة والعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة المحاصر، منذ 14 شهرًا.

وتكسو الخيام التي لجأ إليها النازحون، معظم الأراضي الزراعية في المحافظتين، الأمر الذي أدى إلى تفاقم معاناة المواطنين ومربي الأغنام والمواشي جراء انعدام الأمن الغذائي للإنسان والحيوان على حد سواء بسبب النقص الحاد في الخضراوات ومحصولي القمح والشعير.

يعزو المزارع أبو ماهر اللحام (70 عامًا) من بلدة القرارة شمال مدينة خان يونس، ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية والخضراوات إلى السياسة العسكرية التي انتهجها الاحتلال الإسرائيلي ضد القطاع منذ بداية الحرب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي.

وأضاف: أن "عمليات النزوح التي فرضها الاحتلال على سكان محافظة خان يونس، خاصة المناطق الشرقية منها، أجبرت المواطنين على ترك منازلهم ومزروعاتهم منذ اليوم الأول للحرب".

وأوضح أنه يمتلك أكثر من عشرة دونمات مقام عليها خمس دفيئات مزروعة بالبندورة والفلفل، وخضراوات أرضية متنوعة، إضافة إلى مزرعتي أبقار وأغنام اضطر إلى تركها والنزوح إلى منطقة المواصي بناء على "أوامر الإخلاء" التي أصدرتها قوات الاحتلال الاسرائيلي.

وتابع اللحام: أنه "عاد قبل أسبوع للبلدة ليجد معالم المنطقة قد تغيرت بعد أن قامت جرافات الاحتلال بتجريف كل ما هو قائم على الأرض من منازل وأشجار ودفيئات وآبار مياه وجعلها جرداء أشبه بالصحراء القاحلة"، معبرًا عن إصراره رغم كل ما حل به من دمار وخراب على العودة إلى أرضه واستصلاحها وإعادة إعمار كل ما دمره الاحتلال من جديد، مؤكدًا أن الاحتلال مهما استخدم من أساليب لن يفلح في كسر إرادة الإنسان الفلسطيني المتشبث بأرضه ووطنه.

وشكّلت محافظتا خان يونس ورفح بمواصيهما خلال السنوات التي تبعت الانسحاب الإسرائيلي من القطاع في أيلول/سبتمبر من عام 2005 سلة الغذاء والخضراوات للقطاع.

وانعكس تقليص المساحة المخصصة للزراعة على الحياة اليومية للنازحين الذين باتوا يشعرون بالعجز التام عن قدرتهم على شراء الدقيق والخضراوات بسبب الارتفاع الحاد في الأسعار.

وقال برنامج الأغذية العالمي: إن "أسعار المواد الغذائية الأساسية في قطاع غزة، ارتفعت بنسبة تزيد على 1000 بالمئة مقارنة بمستويات ما قبل الحرب".

وأضاف في بيان: أن أزمة الجوع تتفاقم في أنحاء قطاع غزة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

وأكد النازح من منطقة الفراحين شرق خان يونس إلى منطقة المواصي غربًا، عبد الله أبو دقة، أن الخسائر التي لحقت بالمزارعين جراء العدوان الإسرائيلي انعكست بشكل مباشر على النازحين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلى دفع فاتورة هذا العدوان رغم إمكانياتهم المحدودة في ظل ارتفاع أسعار الخضراوات، والمواد الغذائية بشكل جنوني.

وتساءل النازح أبو دقة: هل يعقل أن نشتري كيلو البندورة بـ45 شيقلاً في ظل انعدام الدخل وتآكل رواتب الموظفين بسبب قلة السيولة التي أعطت التجار الفرصة لرفع عمولة الصرف إلى أكثر من 37%؟.

وأكد أن جنوب القطاع يعاني من مجاعة حقيقية بسبب ارتفاع أسعار الدقيق والخضراوات والمواد الغذائية بشكل عام وانعدام اللحوم والدجاج في الأسواق بسبب الحصار الإسرائيلي وإغلاق المعابر وفتحها بشكل جزئي لإدخال كميات بسيطة لا تغطي 5% من الاحتياجات اللازمة.

ونوه أبو دقة إلى أن ما يصرح به قادة الاحتلال لوسائل الإعلام بفتح معبري ما يسمى "كسوفيم" و"كرم أبو سالم" لزيادة الكميات المسموح بها ما هو إلا ذر للرماد في العيون والواقع على الأرض مخالفًا تمامًا.

بدوره، أكد صاحب بسطة لبيع الخضراوات في مواصي رفح، مصعب عرفات، أن القدرة الشرائية للنازحين تكاد تكون معدومة جراء ارتفاع الأسعار بشكل فاق الخيال.

ونوه إلى أنه يجلب من السوق صندوقًا واحدًا لكل صنف من الخضراوات، يبقى منها كمية إلى اليوم التالي، عازيًا ذلك إلى أن الأسعار أصبحت أكبر من قدرة النازح على الشراء واعتماده على ما تقدمه التكايا.

وتابع عرفات: أن "معظم النازحين يلقون النظرات ويكتفون فقط بالسؤال عن الأسعار"، مشيرًا إلى أنه منذ افتتاح بسطته قبل شهرين صُنّف النازحون إلى ثلاث فئات: الأولى هم من يكتفون بالسؤال لأنهم لا يمتلكون ثمن الشراء، والثانية من يمتلكون النقود ولكنهم غير قادرين على دفع الثمن بسبب ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ويتركز البيع على الفئة الثالثة، ويبدو أنهم من ذوي الأسر محدودة الدخل حيث يكتفون بشراء حبة من كل صنف.

وقال المزارع محمد قديح (65 عامًا) من بلدة خزاعة شرق محافظة خان يونس: إنه "عاد بعد نزوح دام نحو سبعة أشهر إلى بلدته، وقام باستصلاح ما استطاع من منزله وأرضه متحديًا كافة الإجراءات والقصف الاسرائيلي المستمر ليقيم فيه من جديد".

ونوه قديح إلى أنه كان قد غادر بلدته الحدودية منذ اليوم الأول تاركًا خلفه منزله المكون من أربع طوابق ودفيئاته المزروعة بالبندورة المثمرة.

وأكد أن إصراره على البقاء في البلدة رغم المخاطر شجّعه على استصلاح ما أمكن من دفيئاته وزراعتها من جديد رغم الظروف القاسية وشح الإمكانيات من أدوية ومياه بعد تدمير آبار المياه الإرتوازية في البلدة وتجريف المنازل كافة في الناحية الشرقية والشمالية منها.

ولفت قديح إلى أنه تم تجريف أكثر من 200 دونم من الدفيئات في بلدة خزاعة وحدها، كانت تشكّل رقمًا لا يستهان به من الأمن الغذائي لمحافظات القطاع، ولم يتبقَ فيها إلا القليل، وتحتاج إلى صيانة.

وشدد على أن كمية الصواريخ والقنابل التي ألقاها الاحتلال على البلدة أثرت بشكل سلبي على التربة التي فقدت جزءًا من خصوبتها، وهذا بدا واضحًا في كمية الإنتاج للموسم الحالي مقارنة بمحصول العام الماضي.

وأعرب عن تخوفه من إعادة اجتياح قوات الاحتلال من جديد للمناطق الشرقية وتدمير كل شيء على غرار ما فعلته في جباليا وبيت لاهيا شمال القطاع.

وناشد قديح المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان بالضغط على حكومة الاحتلال وإجبارها على وقف عدوانها وإنهاء الحرب على القطاع المدمر ليتمكن السكان من العودة إلى أراضيهم وممارسة حياتهم بشكل أكثر أمنًا.

وكشفت تحليلات صور الأقمار الصناعية خلال الأشهر الأخيرة أن الاحتلال الإسرائيلي جرف نطاقًا واسعًا من الأراضي الزراعية، ومنازل ومبانٍ عامة على عمق يصل إلى كيلومتر على الأقل على طول حدود القطاع، وذلك وفقًا للتقارير، بهدف إنشاء "منطقة عازلة" وتوسيع مناطق أخرى لم يسمح الوصول إليها قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي.

وأكد نائب مدير وحدة البحث الميداني في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ياسر عبد الغفور، أن الاحتلال عمل بشكل ممنهج على تدمير السلة الغذائية في القطاع، شمل ذلك تجريف الأراضي الزراعية وقصفها، وتدمير مزارع الدواجن، ومصادر المياه.

ولفت عبد الغفور إلى أن الاحتلال يسيطر فعليًا على مساحات واسعة من أراضي القطاع في عدة مناطق، بداية من شمال القطاع وشرقه وجنوبه، إلى جانب مفترق الشهداء أو ما يسميه الاحتلال (محور نتساريم) الذي تضخم حتى استقطع 56 كيلومترًا مربعًا من أراضي القطاع.

وأشار إلى أن أغلب الأراضي التي سيطرت عليها قوات الاحتلال خاصة في بيت لاهيا شمال القطاع وشرق رفح وخان يونس، تشكّل سلة الغذاء والخضراوات لتلك المناطق. كما أن مساحات أخرى من الأراضي الزراعية تعرضت للقصف الجوي أو اضطر النازحين لإقامة خيام إيواء عليها.

ونبه عبد الغفور إلى أن ما تفعله إسرائيل ممنهج ويأتي في إطار تكريس تجويع سكان القطاع وفرض ظروف معيشية قاسية، وهذا يأتي ضمن جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها.

وأكدت تقارير وبيانات صدرت عن مؤسسات حقوقية محلية ودولية، أن تدمير إسرائيل مئات الدونمات المزروعة بالخضراوات شمالي قطاع غزة يعكس إصرارها على إبادة الفلسطينيين جماعيًا هناك، من خلال فرض ظروف معيشية تؤدي بهم إلى الهلاك الجسدي والتجويع وتدمير الموارد التي لا غنى عنها للبقاء، وحرمانهم من الإنتاج الزراعي في وقت تواصل فيه حصار القطاع بشكل غير قانوني وتقيد بشدة دخول الإمدادات الغذائية منذ أكثر من عام.

ولفتت إلى أن هذا التدمير يأتي في إطار خطة ممنهجة إسرائيلية منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، حيث عملت قوات الاحتلال على إخراج قرابة 80% من مساحة الأراضي الزراعية عن الخدمة، إما بعزلها تمهيدًا لضمها للمنطقة العازلة بالقوة على نحو يخالف القواعد الآمرة بالقانون الدولي، أو من خلال تدميرها وتجريفها.

ووثقت تعمد الاحتلال الإسرائيلي قتل العديد من المزارعين خلال عملهم أو محاولتهم الوصول إلى أراضيهم ومزارعهم، فضلاً عن تدمير آلاف المزارع والدفيئات الزراعية وآبار المياه وخزاناتها ومخازن المعدات الزراعية، إلى جانب قتل عدد من الصيادين وتدمير مرافئ الصيد وغالبية قوارب الصيد منذ بداية العدوان؛ ما يدلل على أنه عمل عن عمد لتدمير مقومات الحياة والبقاء دون أي ضرورة، وهو ما سيكون له أثر على توفير الغذاء الصحي المناسب لأكثر من 2.2 مليون مواطن في قطاع غزة.

وأكدت تلك المؤسسات، أن حق الوصول إلى الغذاء والمياه والصرف الصحي هو حق إنساني معترف به دوليًا، وهو حق أساسي لضمان صحة السكان والحفاظ على كرامتهم، ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال وقف جريمة الإبادة الجماعية ورفع الحصار غير القانوني عن قطاع غزة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في القطاع الذي بات غير قابل للحياة على كل الصعد.

وأكدت منظمات أممية ودولية، أن الاحتلال الإسرائيلي يستخدم تجويع المدنيين أسلوبًا لحربه المتواصلة على قطاع غزة، ما يشكل "جريمة حرب".