بقلم: عبد الباسط خلف
تقف كوثر جلال المهر، منذ قرابة ثلاث سنوات، على ناصية طريق رئيس في قلب جنين، تضع بجانبها عربة صغيرة مليئة بالحلويات محلية الصنع والسكاكر، فيما يصدح صوتها أمام المارة طوال الوقت بـ"كاندي..كاندي"، في إشارة إلى ما تحمله.
وبدأت أم آدم، كما يعرفها المتسوقون والزبائن، في رحلة كفاحها بعد أن ضاقت في وجهها السبل، كما تقول، فقد أجبرت الشيف الماهرة على ترك عملها في فنادق رام الله وأريحا ومطاعمها، عقب انتشار جائحة "كورونا" وتراجع السياحة، كما عجزت عن إيجاد فرصة مناسبة في تصميم الجرافيك، وكانت على بعد خطوات من تأسيس مطعم متنقل قرب أريحا، لكن الفايروس الذي عم العالم تدخل في خططها.
وأشارت إلى أن انفصالها، عقب إنجاب أربعة أطفال بينهم توأم، وكلهم لم يكملوا الخامسة، ورفض والدهم الإنفاق عليهم، وعدم قدرتها على مقاضاته لطبيعة الهوية التي يحملها، دفعها إلى الاعتماد على ذاتها، والقبول بصناعة بعض الحلوى المنزلية، وتجهيز سكاكر ومسليات للأطفال، وبيعها.
- 7 ساعات
تقف كوثر نحو سبع ساعات يوميًا على أقدامها، ولا تلتقط أنفسها، وتكرر النداء على المارة، فيما تحرص دائمًا على اختيار اللون الأسود في ملابسها، ولم توفق في العثور على بديل في متاجر جنين ومطاعمها.
وأضافت: أن "ظروف أطفالها، وحاجتهم لرعاية واحتياجات عديدة، جعلها تقبل بالقليل من الربح، والاحتفاظ بالكثير من الأمل لتأسيس مطعم متنقل خاصٍ بها يجوب جنين".
وتابعت: إن أي عمل غير مخل بالآداب أو متعارض مع الدين والقيم ليس عيبًا، وبوسع المرأة العمل به، فهو أفضل من التسول، أو السير في طرق أخرى.
يبدأ نهار أم آدم في وقت مبكر، فتشرع عند الثانية فجرًا في إعداد ما تيسر من كعك وقزحة ومعمول، وتصنع الفوشار بألوان مختلفة، وترتب السكاكر في علب خاصة، ثم تجهز اثنين من أطفالها إلى الحضانة، وتتدبر أمور الآخرين بعدما عجزت عن سداد قسطيهما لإدارة الروضة، وتجر عربتها، وتمضي في عملها وسط جنين حتى الرابعة عصرًا، لتعود إلى أولادها ورعاية شؤون بيتها المستأجر، وتكرر دورة كفاحها، وهي ما تتعقد بالتوقيت الشتوي.
- طاهية ومصممة
أبصرت كوثر النور في جنين عام 1994، ونالت الثانوية العامة صيف 2012، والتحقت بدورتين في الشيف وفنون الطهي وتصميم الغرافيك في معاهد رام الله وجنين، وانطلقت للعمل في رام الله ومدينة القمر.
وأوضحت أنها تصر على العمل لتسديد الديون المتراكمة عليها، ولتوفير احتياجات أسرتها، ولا تتخلى عن الحلم بمطعمها المتنقل، لكن أوضاعها الاقتصادية الراهنة تجعلها تؤجله لحين ميسرة.
وذكرت أنها حاولت تسويق منتجاتها البيتية في المتاجر والبقالات، لكنها لم توفق، أو كان يعرض عليها هامش ربح ضئيل جدًا، فآثرت الاستمرار بالوقوف لساعات طويلة يوميًا.
تعجز كوثر عن استعمال المواصلات العامة، فتمشي هي وعربتها في الذهاب والإياب، كما أنه لا يمكنها وضع كرسي في الشارع بجانب عربتها الصغيرة، وتعجز عن ابتياع عربة، أو افتتاح بسطة لطبيعة وقتها، ومتطلبات صغارها.
- شمس ومطر
وبينت أنها تحتمي من الشتاء في مدخل المجمع التجاري، الذي تقف أمامه، ونالت الشمس والحرارة من وجهها، وتسلل إليها وجع الأقدام من كثرة الوقوف، فيما تجبر خلال الاجتياحات على التوقف عن العمل.
وتملك كوثر الكثير من الإرادة والعزيمة، ويشجعها والدها معلم الشريعة الإسلامية المتقاعد والمريض على العمل، كونه لا يخل بالدين ولا يعارض التقاليد، لكنها بالكاد تجمع بعض الشواقل، التي تعتبرها أكبر وأهم فـ"اليد العليا خير من اليد السفلى"، وتلتزم السعي وطلب الرزق، ولا تتسول، وتضحي من أجل أطفالها.
وذكرت أنها تستمع إلى التشجيع والانتقادات من المارة الرجال والنساء، الذين يقترحون تحت سمعها البحث عن بديل، أو يرشحون لها العمل في متاجر ملابس، فتخبرهم بظرف أطفالها، وبعدم توفر فرصة مجزية في هذه المتاجر، خاصة منذ تشرين الأول 2023 وحتى اليوم.
وقالت: إن "صاحب المبنى، حيث تقف، عارض في البداية عملها في الشارع الملاصق لمجمعه، لكنه قَبِلَ في نهاية الأمر".
وتستمد أم آدم العزيمة من مديرتها ومعلماتها اللواتي يفخرن بكفاحها، ويدعمن مثابرتها، كما تشد من أزرها متسوقات من الطالبات، وتسمع الإشادة من رجال أيضًا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها