يخطئ من يعتقد أن مطلق صراع لا يحمل في طياته ضحايا من فريقي الصراع، بيد أن هناك فلسفتين في علاقة أطراف الصراع تجاه العلاقة مع الجماهير، ففي الوقت الذي تحرص فيه القوى والنظم الثورية والتقدمية على حماية شعوبها قدر ما تستطيع من أخطار الصراع مع الأعداء، وتعمل بالوسائل كافة على:

- أولاً: تقليص خسائر الصراع إلى الحد الأقصى.

- ثانيًا: تأمين أماكن إيواء ومواد غذائية وحماية للجماهير الشعبية.

- ثالثًا: مضاعفة خسائر وتكلفة العدو، وزيادة عدد ضحاياه من مواطنيه لزيادة السخط والغضب في أوساطهم، وتعميق التناقض بين الشعب والنظام.

- رابعًا: قوى الثورة تعمل وفق القوانين والمعايير الأممية، وتحترم ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية، دون الانتقاص من حقها في الدفاع عن نفسها وأهدافها وثوابتها، والعكس صحيح بالنسبة للقوى الاستعمارية الرأسمالية، التي أولاً تستبيح القوانين والاتفاقات الدولية كافة، لأن البند الأول على رأس جدول أعمالها، هو الهيمنة والسيطرة على ثروات الشعوب الأخرى لتحقيق المزيد من الربح الاحتكاري. رغم أنها تدعي كذبًا وبهتانًا الالتزام بتلك القوانين، ثانيًا السمة العامة للحروب الاستعمارية الامبريالية وأدواتها من المرتزقة في بقاع الارض والأنظمة الديكتاتورية تعميق وزيادة وتوسيع عمليات القتل لأبناء الشعوب المحتلة، وانتهاك أبسط حقوقهم الإنسانية، ثالثًا تدمير مقومات الحياة كافة، لخلق بيئة متناقضة وانقلابية على القيادة الوطنية، رابعًا فرض الاستسلام عليها، والقبول بالأجندة الرأسمالية، أو أجندة أدواتها الكولونيالية، كما في حالة أداتها الوظيفية الفاشية الإسرائيلية التي تقود عدوانًا منذ 372 يومًا على أبناء الشعب الفلسطيني عمومًا وفي قطاع غزة خصوصًا، وكبدته ما يزيد على 160 ألف شهيد وجريح، وتدمير معالم الحياة الآدمية كافة في القطاع، وما زالت دورة حرب الإبادة الجماعية الصهيو أميركية غير المسبوقة بوحشيتها وأهوالها الفظيعة، وكوارثها لامتصاص آخر نقطة دم فلسطينية، لنفي الشعب عن أرض وطنه، وتحقيق هدف التطهير العرقي والتهجير القسري، وسيطرة إسرائيل اللقيطة على فلسطين التاريخية من البحر للنهر، وطمس الحقوق الوطنية الفلسطينية، وشطب سيادة دولة فلسطين واستقلالها على أرضها المحتلة، وفق قرارات الشرعية الدولية، وعدم عودة اللاجئين لديارهم.

وتجارب شعوب العالم الثورية، بما فيها تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة في المعارك التي خاضتها في مواجهة البلطجة الاستعمارية الإسرائيلية، وللدفاع عن أهداف الشعب الفلسطيني، وحماية الأشقاء في لبنان، عندما كان مركز القرار في الساحة اللبنانية، لم تألُ جهدًا قيادة الثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية عن تقديم وتأمين أبسط مقومات الحياة لتعزيز صمود الشعبين الشقيقين، وخاصة أثناء الاجتياح الإسرائيلي الأميركي للبنان في حزيران/يونيو 1982، وسعت بثبات على تقليص الخسائر البشرية إلى الحد الأقصى، رغم هول الحرب، وقدمت كل الإمكانيات لتأمين المقومات الأساسية للجماهير من الشعبين الشقيقين في العاصمة بيروت وغيرها من مواقع سيطرتها. وهكذا فعل الفيتناميون والصينيون واللاوسيون والكمبوديون والكوبيون والنكاراغويون والروس وغيرهم من الحركات الثورية في العالم.

ولم يخرج زعيم ثوري واحد، ليتفوه بمواقف تافهة ومتهافتة، ومتواطئة مع الأعداء، التي تستهدف إبادة هذا الشعب أو ذاك، بل كان عنوان حماية أبناء الشعب ومصالحهم وتأمين أبسط مقومات استمراريتهم وبقائهم على وجه الأرض على رأس أجندة سياساتهم وممارساتهم الثورية، وبالتالي حياة الإنسان وديمومته، كانت حلقة استراتيجية في نضالهم الوطني. لأن الصراع من ألفه إلى يائه يقوم ويتواصل لينتصر لمصالح وحقوق الشعب، وحمايتهم من الموت، ولم يكونوا يومًا "خسارة تكتيكية" كما ذكر خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج في منتدى كوالامبور الذي عقد في السابع من تشرين أول/أكتوبر، قبل خمسة أيام تحت عنوان "فلسطين رافعة الاستنهاض الحضاري". وإذا كانت فلسطين رافعة الاستنهاض الحضاري، هل يجوز لرجل تولى رئاسة حركة "حماس" لعقدين من الزمان أن يعتبر ارتفاع عدد الشهداء والجرحى من أبناء الشعب خسائر تكتيكية؟ وأين هو الانتصار على إسرائيل؟ ألم ترفعوا شعارات وهمية وكاذبة في بداية الحرب تتضمن التحرير، ثم ركضتم تلهثون وتنادون بعودة الأمور لما كانت عليه قبل السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023؟ هل ما نطقت به، كان هفوة، أم عن سابق وعي وتصميم؟

الحقيقة الموضوعية والمسؤولة، أن ما طرحه مشعل، لم يكن عفويًا، أو ناتجًا عن جهل وغباء، إنما هو حصاد التربية والوعي الذي نهل منه رئيس حماس في الخارج وقيادات الإخوان المسلمين في العالم قاطبة، هو ثمرة الحسابات والأجندات الخاصة والفئوية والإقليمية. لأن قوة من القوى السياسية عندما تقبل أن تكون مطية وخادمة لأجندات الآخرين، يكون الشعب ومصالحه ومصيره آخر همومها، وتصبح الجماهير كما ذكر غازي حمد، ورقة مساومة، أو درعًا بشريًا لحماية قيادات حماس، أو لا يعنونهم شيئًا، وحمايتهم خارج نطاق مسؤوليتهم، لأن تلك المسؤولية تقع على عاتق وكالة الأونروا، وبالتالي فإن الانفاق لحماية قيادة وكوادر حماس، كما ذكر موسى أبو مرزوق.

تتبع أيها القارئ جيدًا تلك المقولات والمواقف، تجد أنها نهلت من ذات المستنقع الإخواني، الذي لا يعنيه الشعب، أو هو في آخر قائمة الاهتمام، إن وجد اهتمام بالأساس.

ما ذكره مشعل وأبو مرزوق وحماد والحية وحمد وباقي أقرانهم من جوقة الإخوان المسلمين الفلسطينيين، عار عليهم، ولا يمت للوطنية بصلة، وهو انعكاس للوعي الظلامي الإخواني. وهناك الكثير مما يمكن أن يقال في هذا المقام البائس، لكن اكتفي بما أوردت، لعل قيادة حركة حماس تعيد النظر في نهجها ومركبات وعيها الخطير، والمتناقض مع مصالح الشعب.