مع بداية "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة على غزة كان الحديث يدور حول مستقبل قطاع غزة في اليوم التالي لوقف الحرب وكان قطاع غزة محط أنظار العالم، الآن وبعد عام وانكشاف كثير من خيوط المؤامرة وخفايا الطوفان وأكاذيب الحرب على غزة، أصبح السؤال حول القضية الفلسطينية والمنطقة إلى أين بعد انتقال الحرب من غزة إلى الضفة ثم لبنان والتصعيد مع إيران؟ وقبل المواصلة علينا العودة للبداية ما قبل طوفان حركة حماس وحرب الإبادة والتطهير العرقي الإسرائيلية أو ما تسميها "السيوف الحديدية".

قبل اقتحام مقاتلو حركة حماس غلاف غزة "طوفان الأقصى" قبل عام كان القطاع يعيش حالة مقبولة نسبياً من الهدوء الأمني على الحدود واستقراراً مجتمعياً وحالة غير مسبوقة من توفر السيولة النقدية والسلع من كل الأصناف بسبب تدفقات مالية من جهات متعددة: رواتب موظفي السلطة الفلسطينية وسلطة حماس وموظفي الأونروا ومستحقات وزارة الشؤون الاجتماعية و المنحة القطرية- 30 مليون شهرياً- بالإضافة إلى ما يُدخله حوالي 18 ألف عامل داخل فلسطين المحتلة، صحيح أن القطاع سجل معدلات عالية من الفقر والبطالة وتردي الخدمات الطبية والتضييق على حرية السفر، إلا أن الحياة كانت تسير نحو التحسن بالرغم من استمرار حماس بالحديث عن الحصار.

كانت حركة حماس تبالغ في الحديث عن الحصار لأسباب سياسية حتى تفرض على العالم الخارجي التعامل معها كسلطة رسمية في القطاع، ولأسباب مالية حتى تجلب المساعدات وبالفعل دخل لقطاع غزة مئات ملايين الدولارات تحت عنوان رفع الحصار وكانت هذه الأموال تذهب لحركة حماس تحديدًا وكان مال حماس لحماس كما قال خليل الحية نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، أيضًا كانت تضخم من حديثها عن الحصار للتغطية على انقلابها وفشلها في إدارة القطاع.

كان الزائرون للقطاع يتفاجؤون من قدرة أهالي القطاع على استعادة الحياة الطبيعية ولملمة جراحهم وإعادة إعمار ما تدمر ومن النشاط الاقتصادي حيث في كل يوم يتم افتتاح مول تجاري كبير أو معرض سيارات أو برج سكني أو شاليه على البحر، كما كانت سيارات فارهة من كل الأنواع تجوب شوارع غزة، حتى إن رجال الأعمال من الضفة زاروا القطاع وبدأوا يستعدون للاستثمار فيه، ومن القصص التي تروى أن وفداً سودانياً زار القطاع وعندما رأى خلاف كل ما كان يسمعه عن الحصار رفع يديه للسماء داعيًا الله أن يحاصر السودان كحصار غزة.

حالة الاستقرار والهدوء كانت مشوبة بحذر وشك في استمرارها ما دامت كل فلسطين محتلة وحالة الحرب والصراع هي التي تحكم علاقة الفلسطينيين والإسرائيليين ولا توجد عملية سلام، والاحتلال يُراقب ويتحكم في كل ما يدخل ويخرج من القطاع من أفراد وسلع وتدفقات مالية ويراقب أيضًا استمرار حركة حماس والجهاد الإسلامي في تطوير قدراتهم العسكرية وخصوصاً الصاروخية في القطاع وزيادة نفوذهم في الضفة والقدس، وأيضًا ما يجري على الجبهة الشمالية من تطوير للقدرات العسكرية لحزب الله.

كانت حركة حماس تشعر بأنها أصبحت رهينة للأموال التي تدخل للقطاع من قطر وأموال العمال في الداخل، وانشغال الناس بالحياة اليومية وبحثهم عن تحسين وضعهم المعيشي ومن تتوفر له فرص الهجرة يترك البلاد وخصوصاً من فئة الشباب وأصحاب الكفاءات العلمية وأصحاب رؤوس الأموال، كما كانت قيادة حماس في الداخل وعلى رأسها يحيى السنوار غير مستريحة لما تقوم به القيادة السياسية لحماس في الخارج وتخشى أن يضحوا بحماس الداخل في ظل أي صفقة سياسية قادمة، كما كانت الهمسات التي يتداولها الناس في غزة والخارج عن ركون حماس في غزة لحالة الدعة وجريان المال في أيديهم وامتلاكهم المنازل والسيارات الفاخرة وتفشي الفساد في سلطتها. كانت تحرج الجناح العسكري لحماس في الداخل وخصوصاً عندما أصبحت الأموال القطرية التي تصل لحماس تأتي عن طريق إسرائيل وبعلمها وموافقتها، أيضًا كانت تمارس على حماس ضغوط من محور المقاومة وخصوصاً إيران التي وجدت في حالة الهدوء والاستقرار في القطاع تعارضاً مع مخططاتها لاستمرار التوتر في المنطقة كورقة ضغط وتهديد لإسرائيل والإدارة الأمريكية تساوم عليها في مفاوضاتها حول الملف النووي.

وفي نفس الوقت كانت إسرائيل تعيش مأزقًا داخليًا بسبب الخلافات بين الحكومة اليمنية الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل بقيادة نتنياهو وقوى المعارضة حول التعديلات على القانون القضائي وتجنيد الحريديم المتدينين في الجيش وخلافات وحول الوضع الاقتصادي المتردي والخلافات مع الإدارة الأميركية وكانت دعوات تحذر من حرب أهلية بعد خروج مئات الآلاف من المتظاهرين للشوارع ضد الحكومة التي تراجعت شعبيتها حسب استطلاعات الرأي، وكان لا بد لنتنياهو أن يفكر بالخروج من هذا المأزق الذي يهدد حكومته اليمينية بالسقوط واحتمال تقديمه للمحاكمة بتهم الفساد، وأيضًا واشنطن التي أقلقها الانفتاح بين السعودية ودول عربية على موسكو وبكين و تقارب الرياض مع طهران، والعلاقات العسكرية المتطورة بين موسكو وطهران.

وهنا التقت أو تقاطعت مصلحة عدة أطراف لاستغلال ما جرى يوم السابع من أكتوبر لتغيير الوضع في غزة والمنطقة: اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو وبنغفير وسموترتش، إيران، حركة حماس وخصوصا الداخل بقيادة السنوار، أ:يضا واشنطن المعنية باستكمال مخطط الشرق الأوسط الجديد و الفوضى البناءة.

كل شيء تغير في قطاع غزة والمنطقة بعد عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من أكتوبر وإعلان إسرائيل الحرب على القطاع "عملية السور الحديدي"، وكأن زلزالاً ضرب ليس فقط القطاع بل القضية الفلسطينية وكل ما كان يروج من أفكار وتحليلات وتقييمات ومخططات حول الشرق الأوسط والتطبيع وعلاقة حماس بإسرائيل، لتوظف إسرائيل حركة حماس وعملية طوفان الأقصى الملتبسة والمثيرة للشكوك لقيام حرب شاملة على كل الشعب والقضية الوطنية في محاولة لتصفيتها كما يريد ويخطط اليمين الصهيوني، ليتعرض القطاع لحالة دمار وحرب إبادة غير مسبوقة وليدخل في متاهة ورحلة التهجير والمعاناة وتغريبة جديدة لا تقل تراجيدية عن تغريبة 1948. ومن غزة ينتقل للضفة ولبنان ويهدد بتغيير خارطة الشرق الأوسط.

بعد عام من الطوفان جدد العدو احتلال القطاع وغيره من تركيبته الديموغرافية والجغرافية وعاث خرابًا ودمارًا في البنية التحتية من مساكن ومدارس وجامعات ومستشفيات غير مسبوق في تاريخ البشرية بالإضافة إلى حوالي ربع مليون ما بين شهيد ومفقود وجريح وأسير وانتشار الجوع والأوبئة، فهل كان هذا واردًا في حسابات مخططي ومنفذي طوفان الأقصى؟.

قد يزعم البعض إن عملية طوفان الأقصى كان لا بد منها لكسر حالة الجمود والإهمال للقضية الفلسطينية والرد على ممارسات العدو في الضفة والقدس وأن استمرار المقاومة وحتى مع زيادة حجم الدمار وأعداد الشهداء سيحرك العالم ضد إسرائيل وقد يؤدي لحرب إقليمية.

نقول لهؤلاء الذين بعضهم ساذج وآخرين متواطئين لدرجة الخيانة: إن المنتظم الدولي فشل في ردع إسرائيل ووقف حرب الإبادة ولا ينتظر منه أي موقف جاد، وأي توسيع للحرب فستتحول لحرب إقليمية، ستتجاوز فصائل "محور المقاومة" وستكون نتائجها مدمرة على الشعب الفلسطيني، والذين يواصلون إطلاق الصواريخ العبثية من قطاع غزة والذين يواصلون تضخيم قدرات فصائل المقاومة ويدعونها للاستمرار في الحرب مديرين الظهر لكل ما يحدث من موت ودمار. هؤلاء شركاء للعدو في جريمة إطالة أمد الحرب وما لحق بغزة من موت وخراب ودمار وتهجير جماعي يلوح بالأفق.

وقد ثبت بعد بدء الحرب على حزب الله ولبنان بداية أكتوبر إن أي حرب لن تكون إقليمية بمعنى الكلمة بحيث تؤثر على العدو إلا إذا قطعت الدول العربية علاقاتها بإسرائيل وشاركت في الحرب وخصوصًا مصر وهذا غير وارد الآن، وحتى تدخل إيران بقصف متبادل محسوب بدقة بينها وبين إسرائيل فلن يخدم القضية الفلسطينية بل غطى عليها وعلى ما يجري في غزة والضفة من حرب إبادة وتطهير عرقي طوال عام، وتحول الصراع في المنطقة وكأنه حرب بين الكيان الصهيوني وواشنطن من جهة وإيران ومحور المقاومة من جهة أخرى. حتى في حالة انفلات الأمور لحرب شاملة تريدها واشنطن وتل أبيب فقد يكون حسم هذا الصراع على حساب القضية الفلسطينية والشعوب العربية وخصوصًا التي بها أذرع مقاومة: العراق ولبنان واليمن وسوريا.

بعد عام من الحرب وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار ما قد تحققه الجبهات الأخرى من إنجازات وما قد تحققه فصائل المقاومة في غزة من بطولات فردية بالرغم من كل ما لحقها من موت ودمار، كل ذلك لن يكون لصالح فلسطين إن استمر وضعنا الداخلي على ما هو عليه من انقسام وتهلهل وغياب استراتيجية وطنية، إن لم تكن للتحرير فعلى أقل تقدير استراتيجية دفاعية للتقليل من الخسائر ومواجهة التهديد والخطر الحقيقي الذي يحيق بوجودنا الوطني وليكون لنا عنوان واحد في أي مفاوضات قادمة لوقف الحرب أو لتسوية سياسية والاستفادة من التحولات في الرأي العام العالمي لصالح فلسطين والحراك الكبير في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وتوظيف حالة الغضب على إسرائيل ونتنياهو وحكومته وخطاباته الاستفزازية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وبعد حربه على لبنان واستهداف قيادات حزب الله واستهتاره بغالبية دول العالم وشعوبها.