حين تمرُّ في شريط الأخبار آخر البيانات عن شهداء غزّة، فإنّما تفعل ذلك عبر وسيط سمعي وبصري، وكان الشريط يمرّ طوال حروب الاحتلال على القطاع حتى انطلق منذ 2015 مشروع "نحن لسنا أرقامًا"، لكنّه منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، صارت الأخبار تلهث مثل عدّادات مجنونة، والأرقام تحكي عن إبادة شاملة على مدار ما يقارب العام، وكلّما ارتفع منسوب قسوتها تزيد الخشية من أن يُفضي تكرار المشهد إلى اعتياده.
من هنا انطلقت فكرة الفنّان بشير محمّد في كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، والتي اشتغل عليها مع فريقه المساعد طوال الشهور الماضية، لتُثمر عملاً تركيبيًا امتلأت به "براحة مشيرب"، قلب الدوحة في فضائها المفتوح بـ"15" ألف دمية دبّ تحت عنوان "صدى البراءة المفقودة"، وقد افتُتح الاثنين الماضي ويستمر حتى 26 أيلول/ سبتمبر الجاري. وترتدي الدمى قمصانًا سوداء مكتوبة عليها رسالة تقول: "لستُ مجرّد رقم، أنا إنسان، ذو هوية، ذو وطن"، وتحت العبارة رسمة البطّيخ الأحمر الذي تُطابق ألوانه ألوان العَلم الفلسطيني.
واللحظة التي ترسم كلّ هذا الأفق الواسع من دمى الأطفال، قوية التأثير عند كلّ المشاهدين من جنسيات مختلفة يسيرون عشرات الأمتار تحفّهم موسيقى نشيد "موطني"، بينما عيون الدببة تحدّق فيهم، لا فرق بين واحدة وأُخرى، كلُّ واحدة ثابتة بحديد غير مرئي في مكعّب إسمنتي، يجمع التضادّ بين البراءة والدمار. وبينما تشبه أرواح الأطفال بعضها في النظرة الأفقية بعيدة المدى، يقترب المُشاهد من أيّ دمية فيلمس كيف يتحوّل كلُّ دبّ من لعبة بسيطة إلى حكاية فردانية، يصبح هذا البحر الهائل من الدمى حاصل جمع أطفال كلّ واحدٍ رحل بفارق عشر دقائق عن أخيه.
نشأت الفكرة عند بشير محمّد حين رأى على شاشة التلفزيون طفلةً فلسطينيةً في غزّة تحمل دمية دُبّ وتبكي. وقال: إنّه "مرّ بلحظة فقَدَ فيها القدرة على متابعة الأخبار، وظنّ أنّ أفكاره وأصابعه قد تيبّست، بينما كانت صورة الطفلة تصعد أمام عينيه وتدفعه إلى أن يتّخذ قرار مشروعه الضخم. وبالنسبة إليه، فالمسألة بسيطةٌ وواضحة، وضوح الشمس، والدم، والطفولة، وهذه الدمية التي أفضّل أن أناديها بـ"الدبدوب"، كما هي دارجة عند الجميع، متّفَق عليها أيضًا عالميًا كونها تمثّل رمز البراءة، وهي محبّبة لدى الأطفال من مختلف الثقافات".
لذلك تلقّت فكرة العمل الدعم الفوري من "مشيرب العقارية" التابعة لمنظومة "مؤسّسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع"، و"جمعية قطر الخيرية"، ليكون خيرياً لصالح المنكوبين في غزّة.
وبشير محمّد فنّان ومصمّم ونحّات مقيم في قطر، يشتهر بنهجه الديناميكي في الفن والتصميم، وتظهر أعماله في التركيبات الفنّية والنحت، وهي تَطرق موضوعات الهوية الثقافية والتجربة الإنسانية. وبدأ المشروع منذ مطلع العام الجاري يومياً على مدار ستّة أيام من الأسبوع، بينما في آخر شهرين لم يعُد بالإمكان أخذ يوم راحة أسبوعية، واستمرّ العمل الدؤوب على قوالب الإسمنت وحديد التسليح والتلوين والأزياء، بما يجعل وزن كلَّ قطعة سبعة كيلوغرامات مصفوفة في مجموعها بتصميم دقيق، يعكس خبرة الفنّان الجيّدة في التصميم الداخلي.
وجمعت كلُّ قطعة بين الدمية قرينة الطفولة والقاعدة الإسمنتية التي ترمز إلى البيوت المدمّرة. وقال محمّد: إنه "حاول التأليف بين الفنّ والرحمة لخلق هذا التأثير بين الضحايا وبيوتهم، لافتاً إلى أنّ كلّ مكعب يبدو مصقولاً، لكنّ أي كسر عرضي لمادة الخرسانة في أحد أطرافها ينبغي أن يبقى كما هو، لأنّ هذه هي الحقيقة التي علينا التحديق فيها. وربما كان هذا العمل من أكبر التركيبات الفنّية في العالم التي تستهدف التذكير بالضحايا عبر رصف أشياء خاصّة تدل عليهم، مثل الأحذية والثياب وحقائب المدارس. ومعرض "صدى البراءة المفقودة" بفضائه الواسع يسمح بالتجوّل بين أرجائه أفقياً وإمعان التفكير في تفاصيله، بما يجعل المُشاهد مجبراً على الهبوط إلى مستوى الأرض حيث طفلٌ كان حيّاً يرزق، وله اسم من ثلاثة مقاطع".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها