على مدار أحد عشر شهرًا من حرب إسرائيل العدوانية على قطاع غزة ظلّ المحلل العسكري في  فضائيات الخديعة، يتناول تطورات هذه الحرب على خرائطه التفاعلية مصورًا "المقاومة" قاب قوسين أو أدنى من هزيمة جيش الحرب الإسرائيلي. لكن النتيجة مع  دخول الحرب شهرها الثاني عشر لا شيء من تحليقات المحلل العسكري، التحليقات التي حرضت كتحصيل حاصل إسرائيل على التغوّل في حربها الفاشية ضد القطاع وأهله، لأن أكثر من مئة وخمسين ألفًا بين شهيد وجريح كانوا من عامة الناس في القطاع المكلوم.

لا شيء تمامًا مما تغنى به المحلل العسكري، وها هي النتيجة اليوم، إسرائيل تعيد احتلال القطاع بعد أن أحالته إلى خراب، وتعين حاكمًا عسكريًا لإدارة شؤونه، هذا ما يقوله الواقع، وباختصار شديد، انتهت إسرائيل عمليًا من قطاع غزة، هي والمحلل العسكري معًا، وجاء الآن دور الضفة الغربية المحتلة، ليعيد المحلل العسكري تحليقاته ذاتها مصفقًا لخرائطه التفاعلية التي ستلاحقها إسرائيل الحرب والعدوان على الأرض دون شك، جراء ذلك، كي تجهز عليها، يعلم المحلل العسكري ومشغلوه في هذه الفضائيات، أن "سلاح المقاومة" مهما كان شجاعًا في تصدياته، لن يكون بوسعه هزيمة إسرائيل عسكريًّا، بجيشها الذي يمتلك أعتى الأسلحة، وأكثرها فتكًا، وأحدثها تطورًا، هذا عدا عن امتلاك إسرائيل الدولة، والحكومة، أقوى التحالفات الدولية، بل إنها مع الولايات المتحدة الأميركية، ولاية لن تسمح واشنطن لا بهزيمتها فحسب، وإنما كذلك لن تسمح بضعضعة أوضاعها الأمنية والاقتصادية.

تعلم هذه الفضائيات ذلك علم اليقين كما محللها العسكري، لهذا فإن تعظيم دور "سلاح المقاومة" لن يصب في النهاية إلا في طاحونة الحرب الإسرائيلية، حين يشكل لها الذريعة كي تواصل تغولها في حربها العدوانية، التي هي أساسًا ضد الكيانية الوطنية الفلسطينية، لتدمير مشروعها  التحرري، بعد أن تتمكن من تدمير الضفة،  كما قطاع غزة.

ما من فلسطيني ينبذ المقاومة، أو يمكن أن يعاديها، لكن، ألا تقول الحكمة إن لكل شيء وقتًا وكلمة ومقامًا، وأن المقاومة ليست بندقية فقط، المقاومة ثقافة تُسقط بقوتها المعرفية والأخلاقية، أعتى قلاع الطغيان، ولطالما كنا وما زلنا نقول: اِعرف عدوك، لتعرف كيف تتمكن من التغلب عليه. وفي أمثالنا الشعبية نقول: "قيس قبل ما تغيص". المقاومة حسابات ليست تقنية فحسب بل ومعرفية كذلك، وموازين القوى ليست مصطلحًا في نظرية، بل واقع له من التجليات، والإحداثيات  ما لا يمكن تجاهله، والمقاومة بعد كل حساب وتقدير، من أعمال الحكمة إن صح التعبير، حين تنبذ المغامرة، وحين لا تلجأ للمقامرة، وحين لا تشتري كما يقال سمكًا في البحر، وحين لا تطعم جماهيرها الجوز الفارغ كناية عن الشعارات وخطابات التهديد المزلزلة التي ثبت خواؤها.

بعد هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001 ضد الولايات المتحدة، باتت كل مقاومة مسلحة، في وسائل وخطابات السياسة والإعلام  الغربية، توصم بالإرهاب، وبات التصدي لها "مشروعًا" على الصعيد الدولي، وبمعنى استولى الغرب على مفهوم  المقاومة، واستبدله بمفهوم الإرهاب، وهذا ما أتاح ويتيح له مواجهة أية مقاومة مسلحة بمنتهى العنف الدموي، وما تفعله إسرائيل اليوم في هذا الاطار خير دليل على ذلك.

رأى ذلك مبكرًا الرئيس أبو مازن، ودعا منذ ذلك الحين إلى اعتماد المقاومة الشعبية السلمية، وهو أساسًا صاحب نظرية الخلاص من الاحتلال الإسرائيلي بضربات سياسية ودبلوماسية متتالية،  ومن خلال التمسك بالشرعية الدولية، وعلى قاعدة ترسيخ الصمود الوطني على ثوابته المبدئية، وعلى أرض الصراع مباشرة، وفي الواقع فإن الصمود الفلسطيني على أرض الوطن، وبالوحدة الوطنية الشاملة، يظل هو القلعة التي لا يمكن اختراقها، تعرف إسرائيل ذلك، لكنها ما زالت تتوهم أن سياسة العنف الدموي، يمكن لها أن تحقق هذا الاختراق، فتتغول في سياستها هذه.

المحلل العسكري لا يتحدث عن ذلك، ولا يشير إليه، فهذا ما قد يفسد عليه تسويق بضاعته الاستعراضية، التي ثبت أنها محض بضاعة فاسدة، فاحت روائحها الكريهة في المستنقعات والمكبات المهولة التي خلفتها الحرب العدوانية في مختلف شوارع وحارات قطاع غزة المكلوم، وها هو يريد هذه الرائحة اليوم في مدن ومخيمات وقرى وبلدات الضفة المحتلة، فما زال على حاله يجعجع وما من طحين هناك أبدًا.