يكتب إلي صديقي المسرحي الألماني "توماس بالك" الذي التقيته في أحد المؤتمرات الأدبية، وقد توطدت علاقتنا منذ سنوات، أكتب إليه، ويكتب إلي على انقطاع قد يمتد أحيانًا نصف سنة أو أزيد، لكن رسائله إلي تعددت وتكاثرت وتسارع زمن وصولها منذ السابع من أكتوبر 2023، وقد كانت رسائله حاملة أسئلة، مثلما كانت رسائلي حاملة أجوبة، وما بين الأسئلة والأجوبة، فجوة جسرناها معًا، بالتفاؤل، والأمل، والحديث عن القيم، والتواريخ، والأخبار، وحكايات الميثولوجيا والأساطير.
وقبل شهرين وصلت رسالة من "توماس بالك" يعمها سؤال ثقيل، فحواه: إنكم، إن صدقت الأخبار والصور، تبادون، فما أنتم فاعلون؟! فكتبت إليه.

العزيز توماس...

للإجابة عن سؤالك، أود أن آخذك إلى خزين الذاكرة، إلى النصوص القديمة، بدءًا سأتلبث عند جلجامش، عند جزء من ملحمته لأرصد مفاعيل القوة وما آلت إليه، وما هي مصائر الأحلام المشدودة إلى القوة التي لا تعرف نبيلاً أو عزيزًا، سواءً أكان ذلك قانونًا أم مدونة للاعتبار والاسترشاد.
تذكر أن لوحًا من ألواح ملحمة جلجامش يتحدث عن عزم جلجامش وأنكيدو بالسفر غربًا إلى غابة الأرز في جبال لبنان من أجل جلب أخشاب أشجار الأرز لتصير بوابة عظيمة للمدينة من جهة، ولتصير سفينة عظيمة يطوفان بها مياه نهر الفرات العظيم وقراه من جهة أخرى، لكن لغابة أشجار الأرز حارسًا جبارًا متمردًا قويًا جدًا اسمه خومبابا، وقد أقامه الإله "أنليل" حارسًا ومالكَا لها، ومنحه من القوة ما لم يعرفه مخلوق، وجعله يتدرع بسبع دروع "الدرع/ تؤنث" أو سبع طبقات من الدروع الحامية له، والصادة عنه.

رحلة جلجامش وأنكيدو استمرت ستة أيام، وفي اليوم السابع جرت المواجهة العنيفة مع "خومبابا"، وقتله الاثنان، رغم توسله بأنه إن منح الحياة سيهب الغابة لهما، وأنه سيكون عبدًا لهما طوال حياته الآبدة، وتوسله هذا كان وهو في ركعة الذل، جاثيًا على ركبتيه، وسيف جلجامش فوق مذبحه تمامًا.
قُتِلَ "خومبابا" لأنه كان يمثل الشر، وافتك الخير قيوده فانتشر وعم، وبين تضاعيف السرد، نقرأ أن "خومبابا" كان مكتفيًا بعزلته وقوته وارتباطه بأصحاب القوة الآلهة، فما كان يهاب أي شيء، ولا يعتبر أي قانون، ولا يحفل بأي مشاعر أو أخلاقيات. لأنه كان يقرأ في كتاب القوة الذي ليس فيه سوى القتل والدم والخوف والموت والمقابر التي جاورت أشجار الأرز؛ ونقرأ أيضًا بعض الحوار الذي دار بين جلجامش وأنكيدو "يقص جلجامش حلمًا على أنكيدو، يقول له، رأيت يا صديقي رؤيا، أننا نقف في وهرة جبل هائل، ثم يسقط الجبل فجأة، فيقول أنكيدو المشهور بالتأويل: سنقتل (خومبابا)".

وسآخذك، يا توماس، للحظات أيضًا، إلى أسطورة السيكلوب "بوليفيموس" الإغريقية، ذلك العملاق الجبار المخيف المتوحش، صاحب العين الوحيدة في وسط جبينه، وهو ابن بوسيدون "إله البحر" والحورية "ثيبسا" عاش في كهف وسيع جدًا جنوب غرب صقلية، وله قطيع هائل من الماشية، كان يلتهم لحم البشر، وبسبب قوته، وضخامة جسده، وعلاقته بأصحاب القوة الآلهة ما كان يقيم وزنا لقانون إلهي، أو لقانون بشري، ولم يعتبر أيًا من خلاصات الحياة، أوديسيوس وعبر معطيات العقل يقتل بولفيموس، يسقيه شرابًا ثقيلاً فيسكر، ثم ينام، وفي نومه، يأتي أوديسيوس بعمود من نار مشتعل، ويدخله في عينه الوحيدة، ويهرب بمن تبقى من رجاله، أما من خسرهم فقد أكلهم بوليفيموس، تذكر، يا توماس، أنه وفي بداية دخول أوديسيوس إلى الكهف، يسأله بوليفيموس من أنت؟ فيقول له: أنا لا أحد، فيظن بوليفيموس أن هذا هو اسمه، ولهذا حين يذهب إلى الشاطئ مطاردًا أوديسيوس يصرخ مستنجدًا بالآلهة: إنني أموت، ولا أحد آذاني، وفقأ عيني، النجدة، النجدة.

العزيز توماس...

أعرف أنك تعرف هذا، لكنني أردت أن أذكرك بنهايات القوة العمياء المتوحشة، وما آلت إليه من خواتم مذهلة، وأردت أن أذكرك أيضًا بما قاله علماء الاجتماع والفلاسفة في بلادكم من أن الشر سلالة، وأن التوق إلى القوة العمياء الغاشمة سلالة، وأن سفك الدماء والعيش بها ومعها وفوقها سلالة، وأن إدارة الظهر للقوانين والأعراف والقيم هي صيغة عيش، عفوًا هي سلالة أيضًا.

توماس...

لقد أقام أصحاب القوة في بلادكم الكيانية الصهيونية بالتحالف مع آخرين، فوق أرضنا، وكانت البداية عرائش من قصب وخشب، ثم صارت مستوطنة هنا، وأخرى هناك، ثم صارت إلى ما صارت إليه اليوم، أترى، يا توماس، سلالة الشر كيف تتدحرج وتكبر، أترى سلالة سفك الدماء، وما خلفته من بحيرات، أترى الاستهتار بالقوانين وهذه النهايات التي لا صلة لها بنبيل أو عزيز، أترى مخلفات القوة العمياء من بكاء وعويل ودمار ومقابر وإبادة؟.

وتسألني، توماس العزيز: ما العمل؟

فأجيب، إننا نباد فعلاً بأسلحتكم، وأنتم تتفرجون، ومن يقتلنا ويدمر قرانا ومدننا هم مرتزقة جيء بهم من كل أنحاء الدنيا، وليس أمامنا سوى أمر وحيد هو المواجهة، مواجهة وهرة هذا الجبل المخيف، لأننا على ثقة عظيمة بأنه سيسقط فجأة، ومواجهة صاحب العين الوحيدة الصارخ: النجدة، النجدة، الذي مآله الغرق في بحر عتيم، نصفه شر، ونصفه الآخر قصاص.