بعيدًا عن الدخول في تفاصيل ما أعلنه الرئيس الأميركي بايدن ليلة أمس الأول حول ترتيبات وقف الحرب وتبادل المحتجزين والأسرى، بالرغم من أهمية ذلك فالخطورة، كما يقال أن الشيطان يكمن في التفاصيل، ومن المهم التأكيد أيضًا أن وقف الحرب هو أولوية وطنية لا تعلوه أي أولوية أخرى، وأن استمرارها يعني خسارة آلاف الشهداء والجرحى، واستكمالاً لمخطط التدمير الشامل الذي تنفذه إسرائيل بشكل منهجي وتحويل قطاع غزة منطقة محروقة مدمرة لا تصلح للحياة، ونذكر أن كل عاقل فينا، وبعيدًا عن المزايدات والشعارات الطنانة، يريد وقف الحرب أمس قبل اليوم لأن ما يجري هو نكبة أشد بشاعة من النكبة الاولى.

أخطر الأفخاخ في مبادرة بايدن أنه يكرس انفصال القطاع عن الضفة، بمعنى أن لا دولة فلسطينية على الأجندة، وهو أمر يقدم إغراء للحكومة اليمينية الفاشية في إسرائيل، التي تحدد هدفها بمنع إقامة دولة فلسطينية وتعمل على ضم الأرض الفلسطينية المحتلة كلها بما في ذلك قطاع غزة،  كما قد يستهوي ذلك حماس، وإن من موقع مختلف، على أمل أن تحافظ على بقائها بالمشهد وسيطرتها وأن كانت مجزوءة هذه المرحلة على قطاع غزة أو أن تقبل بإدارة السكان، وهي المهمة التي لا تريدها إسرائيل.

أما الخطر الثاني، أو الفخ الثاني، فهو أن المبادرة لا تنص على انسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة وإنما اعادة تموضع وانتشار بعيدًا عن المناطق المأهولة، كما لا تتطرق المبادرة للانسحاب من منطقة محور "فيلادلفيا" ومعبر رفح، وبالتالي إبقاء القطاع عمليًا تحت الهيمنة الإسرائيلية. فهل ستقبل حماس بذلك وتسوقه على أنه انتصار؟

ويأتي الخطر الثالث، أن الرئيس بايدن لم يتطرق لحل الدولتين، وهو ما يفسر التركيز على تكريس الفصل بين القطاع والضفة، وبقاء القطاع تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، فعدم ذكر حل الدولتين مرة أخرى يلبي رغبات اليمين المتطرف الإسرائيلي، ويستهوي حماس، وهي غير المعنية بالأساس بفكرة الدولة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي لحل الدولتين، بل هي عملت طوال الوقت على إجهاض هذا الحل وتقويضه، وهو ما يلاحظ بوضوح بفتور رد فعلها بخصوص الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية، أو حتى تصويت 143 دولة في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة لمصلحة عضوية فلسطين الكاملة في هيئة الأمم.

ومن أخطار المبادرة الأخرى أنها وإن تحدثت عن وقف الاقتتال وعن إعادة الإعمار فإنها لم تشر إلى جدول زمني واضح ولا من هي الجهة التي ستتولى مسألة إعادة الإعمار ومن سيمولها وكيف سيتم ذلك، بمعنى أن المبادرة تكون أكثر وضوحًا عندما تتحدث عن إعادة  المحتجزين الإسرائيليين إلى ذويهم وبجدول زمني واضح بهذا الشأن، ولكن ما يتعلق بمستقبل غزة وإعادة اعمارها يصبح الحديث غامضًا، والسؤال مرة أخرى: هل ستوافق حماس على مبادرة غامضة مقابل بقائها بالمشهد، وهو غموض على حساب القضية الوطنية، وعلى حساب مصالح أهالي قطاع غزة الذين دفعوا ثمنا باهظا للحرب؟

وما قد نفهم من المبادرة أنها في نهاية الأمر تكرس الانفصال والانقسام، وتكرس الاحتلال وسيطرت إسرائيل الأمنية على القطاع، وما نفهم أن لا دولة فلسطينية في المدى المنظور رغم زخم الاعترافات الدولية بها، وما يجب أن نفهمه أن المبادرة هي شكل من اشكال استمرار الحرب بأشكال أخرى ولا ضمانات أن تقوم إسرائيل بأي إجراءات عسكرية وأمنية عندما ترى من وجهة نظرها مبررًا لذلك. فجيش الاحتلال على ما يبدو سيبقى في الخط الفاصل بين شمال وجنوب القطاع وعلى أطراف المناطق ذات الكثافة السكانية وعلى الحدود الفلسطينية المصرية.

وهنا لابد من التأكيد أننا نريد وقف الحرب فورًا والمبادرة لا تؤكد ولا تضمن ذلك، نريد أن يعود القطاع موحدًا مع الضفة، والمبادرة تكرس الانفصال، وتريد إعادة الإعمار ولكن من سيقوم بها؟ وهل هناك أفق حقيقي لبدء ذلك في الأشهر القريبة القادمة، في المبادرة لا إجابات، والغموض يعني استمرار الحرب. فالكرة تبقى في ملعب حماس، وإذا ما كانت ترغب في بلع طعم بايدن؟ أم أنها ستختار الوحدة الفلسطينية وترفض تكريس الانقسام والانفصال؟ لننتظر ونرى!