لم يضع سيادة الرئيس أبو مازن النقاط فوق حروفها، فقط في خطابه القصير المكثف، أمام القمة العربية في البحرين، وإنما جعلها أيضا كلمات بحد ذاتها، كلمات بالغة الوضوح، والمعرفة، والموقف، لكل حرف، بنقطته، كلمته الدالة على المعنى المباشر، وغير المباشر في آن واحد ولأن الصراحة ببلاغتها الصادمة غالبًا، هي نهج الرئيس أبو مازن، وأساس خطابه السياسي، المحمول على قيمه الوطنية، وأخلاقياته المسؤولة، تفتح الخطاب على حقيقة ما ينبغي أن يكون هناك من موقف دولي وعربي بعيدًا عن مراوغات البلاغة ومخاتلاتها وتحليقاتها الإنشائية، تجاه ما يجري من حرب إبادة للقضية الفلسطينية، وعلى قاعدة السؤال الجارح، "إلى متى سيستمر هذا الإرهاب الإسرائيلي؟ ومتى تنتهي هذه المأساة، ويتحرر شعبنا ودولتنا من الاحتلال؟"، إنه السؤال الذي لا يخاطب الضمير فحسب، عربيا كان هذا الضمير أم عالميًا، وإنما يخاطب التاريخ كذلك، ليعقد محاكماته التي ستدين ولا شك كل من ظل في تلك المراوغات والتحليقات الإنشائية، هاربًا من تحمل مسؤولياته الأخلاقية، والإنسانية، وقد لا يكون ذلك بعيدا بعد الآن.
ولا يطرح سيادة الرئيس أبو مازن هذا السؤال في قاعة امتحان، من أجل إجابة لفظية، وإنما يطرحه في بيت المقام العربي، أولاً وخاصة، من أجل أن يعلو هذا المقام، لا بالجواب اللفظي الذي يريح ويستريح، وإنما بالموقف العملي الذي يضع سقفا زمنيا للخلاص من الإرهاب والمأساة، فإن لم يحدث هذا اليوم، فلا شك أنه سيكون بعد حين، وخاصة عندما يمتلك الأشقاء العرب، تمام اليقين، أن الأمن القطري، والقومي العربي، هو من أمن فلسطين، حين هي حرة، في دولتها المستقلة، بعاصمتها القدس الشرقية، وبمعنى لا أمن، ولا استقرار، ولا ازدهار في العالم العربي، دون فلسطين الدولة الحرة المستقلة. وعلى هذا شكل خطاب سيادة الرئيس أبو مازن في الواقع البيان الافتتاحي، والختامي للقمة العربية، ولهذا سنرضى بهذه القمة، قمة عربية خالصة، بروح الأمة وقيمها الأصيلة، طالما نحن هذه الروح، وأصحاب هذه القيم، وبهذا الصوت الذي لطالما كان، وسيظل معليًا خطاب الحق، والحقيقة، ولهذا لن نكون على مفترق طرق مع أي من أشقائنا العرب، فهم الأهل وإن ضنوا علينا.
هذا هو خطاب فلسطين، وإنه الخطاب الذي لم يتجاهل كذلك، لصراحته ومسؤوليته، وشجاعته، بواعث الخلل في ساحته الداخلية، وهو يشخص خطر القرارات المنفردة، وعبثها التي وفرت الذرائع لإسرائيل لتشغل نيران حربها الفاشية ضد أبناء شعبنا في قطاع غزة المكلوم، وفي الضفة الفلسطينية المحتلة، كما أنها القرارات التي أنتجت هوس التعلق بأوهام الإمارة، التي ما زالت تقود لرفض حركة حماس إنهاء الانقسام، الذي صب عمليًا في مصلحة إسرائيل، ضد فلسطين ومشروعها التحرري، وبصفة خاصة ضد قطاع غزة، فقد حاصرته طويلاً، وأوهمته كثيرًا - ألم تكن المنح المالية التي كان الشاباك يوافق على وصولها لخزائن حماس، هو التوهيم المبالغ فيه في هذا الإطار- وها هي اليوم تعود إسرائيل لاحتلاله، وبذريعة السابع من أكتوبر، جعلته ذبيحا ما زال ينزف حتى اللحظة.
ويبقى أن نوضح أيضًا لخطاب فلسطين المواقيت كلها، ولا يساوم هذا الخطاب على ذلك، ليكون من فوق أي منبر، وفي أي وقت، ليعلي كلمة الحق والحقيقة، لعل الذين ما زالوا غارقين في أحلام اليقظة، سادرين في غي الانقسام البغيض، لعلهم يصحون من هذه الأحلام، وهذا الغي المدمر، ليروا الواقع على حقيقته الموجعة، أهلنا في قطاع غزة اليوم عطاشى يتضورون جوعا، ونازحون بلا وجهات آمنة، الشهداء الضحايا فاقوا الخمسة وثلاثين ألفاً، والجرحى أكثر من ثمانين ألفًا، بلا مستلزمات الشفاء والرعاية الصحية، وحملات الاعتقالات التعسفية التي تواصلها قوات الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في الضفة المحتلة، حملات يومية بالعشرات والمئات. فأي المواقيت هي الأجدى لقول خطاب فلسطين، وأهلها تحت النار على مدار الأربع وعشرين ساعة يوميًا.
وبعد، لا تلزمنا الحياة بضرورة معرفة كل شيء، لكن من الضرورة أن نعرف الأشياء والمواقف والسلوكيات والسياسات التي تجعل الحياة ممكنة بشروطها الآدمية والأخلاقية والسيادية، حتى لو كان ذلك مكلفا، وهذا ما يصبو إليه، وما أراده ويريده خطاب فلسطين على لسان الرئيس أبو مازن، تلزمنا حياتنا الوطنية خاصة، أن نعرف من هو الصادق، ومن هو الكاذب، في كل ما يتعلق بقضيتنا الوطنية، وتطلعاتنا المشروعة والعادلة، تلزمنا أن نعرف من هو الذي يتاجر بهذه القضية، ومن هو الذي يدافع عنها، ويسعى لنصرتها، وتلزمنا قبل كل شيء أن ندرك طريق الحق، كي لا نتيه في طريق الباطل، ونعرف أن طريق الحق موحشة، لقلة سالكيها، وفق ما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، لكنها تظل الطريق التي توصل للخلاص، والحياة المزدهرة، بالحرية، والسيادة، والاستقلال.
إذا كان لنا أن نوجز بعد كل هذا القول، فإن خطاب سيادة الرئيس عباس في قمة المنامة، هو الخطاب الذي يحمل كل هذه المعاني، وهذه التطلعات، كما أنه الخطاب الذي يدعو العالم أجمع لصحوة أخلاقية فاعلة، بكل ما تحمل كلمة الصحوة من معان ودلالات، الصحوة الضرورة قبل فوات الأوان.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها