لقد أكد يوم الأرض الذي تصادف ذكراه هذه الأيام بالثلاثين من آذار على الروح الكفاحية التي هزمت روح انكسار جريمة النكبة وهزيمة حزيران وحولتهما إلى روح من التحدي لدى أبناء شعبنا بالداخل، حيث باتت لاحقًا أكثر اشتعالاً وحضورًا واتساعًا بأرض كل الوطن منذ تاريخ هذا اليوم الخالد عام ١٩٧٦ وحتى يومنا هذا في التمسك بالأرض كمعنى للهوية الوطنية، وفي مواجهة سياسات الحركة الصهيونية وأداتها دولة الأحتلال من القهر القومي والقتل اليومي ومصادرة الأراضي والأستيطان الأستعماري والتمييز العنصري وفق قانون قوميتهم اليهودية وجرائم التطهير العرقي والتهجير والإبادة الجماعية الجارية الآن خاصة في قطاع غزة في محاولاتهم لاستكمال مشروعهم في كل أرض فلسطين التاريخية.

ولتغيير مجتمع استعماري عنصري، لا يكفي أن يكون أفراده غير عنصريين ولا يحملون عقلية استعمارية، بل يتوجب أن يعملوا لمعاداة واسقاط تلك المفاهيم والممارسات عملياً. فغياب ذلك هو أحد أسباب تفشي الفاشية بالمجتمع الإسرائيلي اليهودي، بيئة سمحت لذلك إلى جانب جوهر الفكر الصهيوني ومن الصعب تجاوزها. وأن كان لتحولات أن تجري فسينتقلون من يمين ديني صهيوني إلى يمين صهيوني ليبرالي، ولا علاقة لذلك بوقف عدوان الإبادة والتهجير الجاري وبإنهاء الاحتلال والعنصرية سوى عند قلة بسيطة منهم، هم أساساً مناهضين للصهيونية يتم اتهامهم بمعاداة السامية.

ورغم أن لا ديمقراطية وعدالة مع الاحتلال والأبارتهايد، وبغض النظر عن الدوافع والنتائج في عملية الصراع الجارية بين قوى وأحزاب دولة الاستعمار الصهيوني في أزماتها المتصاعدة اليوم، لكن مكونات مجتمعهم تبدو الوحيدة القادرة على محاسبة حكومتهم وفرض وقائع وحكومات جديدة تخدم مصالح استمرار رؤيتهم ووجودهم الاستعماري في كل أراضي فلسطين التاريخية من وجهة نظرهم وروايتهم، في وقت عجزت فيه الأسرة الدولية عن محاسبة ومعاقبة هذه الدولة المارقة وحكوماتها طيلة عقود ماضية.

لكنه أمر مؤسف ومزعج ولا يتسم لأي أشكال العدالة لشعبنا، أن نرى أن من يضطهد ويمارس القهر بحق شعبنا على مدار أكثر من ٧٦ عامًا قادر على ممارسة أشكال من الديمقراطية لمكوناته اليهودية حتى ولو كانت انتقائية وأحداث تغيرات تتعلق بمسار مجتمعهم وفرض ما يسمى بحق اليهود في تقرير مصيرهم، دون أن نتمكن نحن كشعب هو صاحب الأرض الأصلاني يناضل للتخلص من تبعات أفعال هذه المجموعات الاستيطانية المتباينة من حيث الأصول الأثنية والعرقية والتي اختارت لنفسها قسراً صفة شعب، من ممارسة حقنا في تقرير المصير رغم عظمة التضحيات الطويلة لشعبنا الذي يستكمل مرحلة التحرر الوطني من جهة، ومن استكمال مسار التطور الطبيعي المفترض للتغير الديمقراطي في مجتمعنا الفلسطيني وفق القانون الأساسي ووثيقة اعلان الاستقلال، على قاعدة وحدة الأرض والشعب والقضية والتوافق الوطني من جهة أخرى.

ورغم ذلك لن يكون لإسرائيل مستقبل يسوده الاستقرار إذا سُمح باستمرار إرهاب الدولة هذا وتعاظُم جرائمها واستمرار محاولات إلغاء وجود شعبنا وأستئصاله، حيث ستستمر المقاومة والكفاح التحرري لذلك وللفصل العنصري واستمرار الأحتلال كجريمة أساسية مع رفع كلفته، وسيكون الجيل القادم الذي فقد عائلاته وأصدقائه من خلال القتل أو الأسر وكل ما يملك خلال العدوان التدميري القائم بل وخلال مسار الاحتلال الطويل، أكثر شراسة في مقاومة الاحتلال حتى يتحقق لشعبنا كرامته واستقلاله الوطني بهدف الوصول إلى السلام العادل والثابت سندًا لحقوقنا والقوانين الدولية بما يسمح بحق تقرير مصيرنا في وطننا.

إن إسرائيل لا تريد لأي مشروع سياسي أن يُنهي الصراع وهي مُصرّة على استمرار ما يحدث من فظائع الإبادة في غزة بهدف استئصالها من التاريخ والجغرافيا وفق رؤيتهم القديمة المتجددة وذلك عبر تنفيذ عمليات التهجير سواء الطوعي أو القسري من أجل استكمال ذلك بالضفة الغربية بما فيها القدس في سياق تنفيذ خطة الحسم المبكر للصراع المتعلقة بمشروعها التوراتي الصهيوني. إضافة إلى ما تستكمله من ترتيبات لاجتياح رفح وإقامة المنطقة العازلة بشمال غزة بمساحة ١٧% من القطاع وتقسيمه بالشارع العرضي وصولاً لرصيف الميناء الذي يُبنى بمخلفات ركام البيوت المجبول بعظام ودماء أبناء شعبنا، بهدف السيطرة الأمنية وما يتعلق بالغاز من جانب، ومع استمرار توسيع الاستيطان بالقدس والضفة والاعتقالات بالجملة والاقتحامات اليومية لكافة المدن والقرى والمخيمات وعمليات إعدام الشباب التي فاقت ببشاعتها وأعدادها أي فترة منذ بدء الأحتلال من جهة اخرى بهدف تكامل مشروعهم الأحلالي لمنع إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس.

وأمام ذلك كله أصبحت إسرائيل تعيش عزلة دولية من خلال تصاعد حركات الشعوب ضدها التي لم نشهد لها مثيلاً من قبل، كما أغلبية أعضاء هيئة الأمم التي أصبحت اليوم تدعوا إلى مقاطعة إسرائيل ومحاسبتها خاصة وأنها تقف اليوم أمام العدالة الدولية لأول مرة بفعل تضامن دول وأصدقاء أممين لنا.

وهي تعيش اليوم نوع من الصراع والفوضى السياسية والاجتماعية لم تشهده منذ تأسيسها كمشروع استعماري بالمنطقة، خاصة مع تعاطف مجموعات يهودية غير صهيونية مع شعبنا في أرجاء العالم وبروز خلافات حول تشريعات قانونية لها علاقة بقانون التجنيد وعلاقة الدين بالدولة وباستمرار ما بدأ قبل عام حول ما سمي بالانقلاب القضائي الذي هدف الى سيطرة الصهيونية الدينية على مفاصل الدولة ومصادرتها من التيار الصهيوني الليبرالي أو الكلاسيكي أن صح التعبير، الأمر الذي يهدد استقرار حكومة نتنياهو الآن الذي يسعى لاستدامة العدوان وتوسيع رقعة الحرب إلى الأراضي اللبنانية لأسباب سياسية وشخصية وايدولوجية تستمد مضمونها من رؤية جابوتنسكي، ومن دعم قوى الاستعمار الغربي التي ما زالت لليوم تمارس النفاق السياسي.

أن الولايات المتحدة التي يصدر عنها اليوم تصريحات متضاربة بشأن العلاقة مع اسرائيل والحديث عن تباين وجهات النظر، ما زالت ترى بإسرائيل ما يحقق لها مصالحها والتماهي الحضاري والديني والسياسي الإستراتيجي معها. فحتى قرار مجلس الأمن الدولي الأخير ٢٧٢٨ الذي امتنعت فيه الولايات المتحدة عن التصويت دون ممارسة حقها بالفيتو، قد اعتبرته في ثاني يوم على لسان مسوؤلين البيت الأبيض قرارًا غير ملزم ولا يحمل أبعادًا قانونية، كما وليس له تأثير على الاطلاق على قدرة إسرائيل واستمرارها بالحرب!

كما وقد استقبله وزير خارجية دولة الاحتلال كاتس بالقول "إن إسرائيل لن توقف العملية الإسرائيلية وتنوي الاستمرار بالقتال حتى تقضي على المقاومة وتستعيد الرهائن المخطوفين والمحتجزين في غزة.

هذا الأمر يضع سؤالاً كبيرًا حول ماهية اعتبار الولايات المتحدة لدور مجلس الأمن ومصداقيتة وقدرته على تنفيذ قراراته، الأمر الذي يتعارض مع نصوص ميثاق هيئة الأمم خاصة البند ٢٥ واصرار الولايات المتحدة على استمرار حماية ومساعدة إسرائيل، سوى باعتبار ذلك فقط رسائل موجهة للداخل الأمريكي في ظل معركة الانتخابات الرئاسية وتصاعد المواقف المعارضة لسياسات بايدن، علمًا أيضًا بوقوف الجانب الآخر بالحزب الجمهوري إلى جانب كافة سياسات دولة الاحتلال دون خجل أخلاقي لأن مصالح قيادات الحزبين تستدعي ذلك إلى جانب مؤثرات مجمعات الصناعات المالية والعسكرية هنالك مما دفع الولايات المتحدة وإدارة بايدن أمس إقرار حزمة جديدة من المساعدات العسكرية بما يخدم استمرار عدوان الإبادة.

ووفق تصريحات عدد من المسوؤلين الأوروبين فان القارة الأوروبية التي ما زالت خاضعة للسياسات الأميركية تدخل ولأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية في أوضاع شبيهة بما قبل تلك الحرب من جهة أخرى.

هذا هو نتاج ما تسعى له الولايات المتحدة في اطار استراتيجية سياساتها الخارجية أن كان بحربها بالوكالة في أوكرانيا أو البلقان أو بمنطقتنا ومن إثارة بؤر الحروب في مناطق مختلفة "لنشر الديمقراطية بالحروب" وفق معايرهم ونظرياتهم واستمرار هيمنتها في وجه التحولات الجارية بالنظام الدولي وصراعها مع القوى الأخرى الصاعدة وحروبها من أجل الطاقة والغاز وخطوط التجارة البرية والبحرية. إن تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى له بالمنطقة يندرج في إطار تلك الإستراتيجية التي تستدعي كما يطالبون "التجديد والمتجدد" لفصل تاريخنا عن تراث منظمة التحرير، الأمر الذي يحاولون الدفع به أيضًا في كافة دول المنطقة لتسهيل نفاذ سياساتهم بأشكال اخرى أو من خلال انفاذ نظرية الفوضى الخلاقة مجددا في بعض دول الطوق بالتعاون مع حركة الإخوان المسلمين للعبث في استقرار تلك الدول، إضافة إلى ومحاولات تنفيذ ذلك التغير أيضًا بحكومة إسرائيل لتسهيل تنفيذ رؤيتهم التي لم تنتهي ترتيباتها بعد بهدف هيمنتهم واستقواء إسرائيل بالمنطقة على حساب حقوقنا السياسية في وطننا.