في لعبة السياسة الكثير من المواقف المعلنة من قبل المسؤولين، أو حتى بعض التسريبات لوسائل الاعلام لا تعكس الحقيقة، ولا صلة لها بما تضمنته حوارات الغرف المغلقة، ولا حتى الاتصالات البينية بين الزعماء، وحتى أحيانا كلمات وخطابات زعماء الدول وكلمات ممثليهم من وزراء ومستشارين قد تحمل رسائل ومواقف سياسية أو عاطفية لإرضاء الرأي العام المحلي، بيد أنها في الواقع تكون مغايرة لحقيقة السياسات الرسمية. وفي ذات الوقت، هناك مواقف معلنة تحمل في طياتها السياسة الرسمية، وتتمثل رؤية النظام السياسي هنا او هناك، ولها انعكاساتها في الواقع وعلى الأرض، وعلى السياسي والإعلامي الذكي فرز الغث من السمين، وعدم العوم في شبر ماء. 


وعلى سبيل المثال لا الحصر، لو أخذنا مواقف الإدارة الأميركية من اعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ودعم إستقلال دولة فلسطين وفقًا لخيار حل الدولتين على حدود الرابع من يونيو 1967، لا نجد لهذه التصريحات مصداقية أو مؤشر واحد على الأرض، ولم نلحظ خطوة إيجابية في هذا الاتجاه، ليس هذا فحسب، بل أن ما تنتهجه واشنطن من سياسات يتناقض مع ما سبق ذكره من حيث أولاً رفضها لوقف الحرب فورًا؛ ثانيًا تعطليها إصدار أي قرار من مجلس الأمن الدولي لوقف حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني عمومًا وفي قطاع غزة خصوصًا؛ ثالثًا الضغط على بعض الدول العربية وخاصة جمهورية مصر العربية لفتح الحدود مع فلسطين لادخال النازحين الفلسطينيين من الشمال الى رفح لسيناء المصرية مقابل إغراءات مالية قيمتها 250 مليار دولار أميركي تتضمن شطب الديون المصرية، التي تقدر ب165 مليار دولار أميركي والباقي مساعدات؛ رابعًا الدعم شبه المطلق لحكومة الحرب الإسرائيلية في مواصلة حربها على قطاع غزة، والتساوق مع اكاذيبها وبضاعتها الفاسدة من بداية الحرب حتى اليوم 136 من الحرب الإجرامية، رغم وجود تباينات مع حكومة نتنياهو؛ خامسًا الضغط على العربية السعودية للتسريع في عملية التطبيع مع إسرائيل، ومحاولة فصل المسارات عن بعضها البعض، أي فصل حرب الإبادة عن التطبيع، وغيرها من المواقف التي تتناقض مع ما تقدم من الاعتراف بالدولة الفلسطينية واستقلالها وسيادتها على أرضها، وحتى دون تحديد ماهية الدولة التي تتحدث عنها من حيث حدودها، طبيعتها ومدى سيادتها وسيطرتها على أراضيها برًا وبحرًا وجوًا وتحت الأرض. 


ولكن الدول العربية المعنية لم تغير مواقفها، والتي عكستها خطة السلام العربية التي تم ذكرها في مقالة أمس بعنوان "حدود قوة الموقف العربي"، التي اكدت على ضرورة وقف الحرب فورًا، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع كليًا، ودخول المساعدات الإنسانية، ورفض التهجير القسري لمصر أو الأردن، وطالبت بعودة النازحين إلى مدنهم وأماكن سكناهم في شمال غزة، والاعتراف بالدولة الفلسطينية في مجلس الامن، وتمكين الدولة من النهوض بإمكانياتها الاقتصادية والذهاب للحل السياسي وعقد المؤتمر الدولي لبلورة استقلال دولة فلسطين ... إلخ.
بيد أن موقف وزير خارجية مصر، سامح شكري اول أمس السبت 17 فبراير الحالي، الذي أعلنه على هامش أعمال مؤتمر الأمن في ميونيخ الألمانية ونصه ليس لدينا أي نية لتقديم مناطق آمنة للنازحين (الفلسطينيين)، ولكن إذا فرض علينا الامر الواقع سنتعامل مع الوضع، وسنقدم الدعم الإنساني. ولكن هذا ليس مبررا لفرض الامر الواقع" جاء غير مفهوما، ويتناقض مع خطة السلام العربية، ومع ما اعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسي في لقائه مع الرئيس أبو مازن يوم الاثنين الموافق 8 يناير الماضي (2024)، الذي اكد بشكل قاطع انه لن يسمح بالتهجير القسري لشمال سيناء مهما كلف ذلك من ثمن، وعمق تأكيده، بانه رفض كل المغريات لتمرير الهدف الأميركي الإسرائيلي. 


كما أن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 لا تسمح لإسرائيل بارسال دباباتها واسلحتها الثقيلة او طيرانها الحربي للمنطقة المصنفة D والتي تمتد لمسافة 4 كيلو متر في النقب بما في ذلك محور صلاح الدين/ فيلادلفيا، أي الحدود المصرية الفلسطينية، وعليه في حال تقدمت الدبابات الإسرائيلية لاجتياح رفح الفلسطينية يعتبر انتهاكًا فاضحًا للاتفاقية، مما دعا جمهورية مصر العربية للتهديد بأنها ستجمد اتفاقية السلام المذكورة، وتطرد السفير الإسرائيلي وتسحب السفير المصري، أضف إلى أنها أرسلت أكثر من 40 مدرعة وناقلة جند للحدود للحؤول دون ذلك، وتحسبًا لاي خطوة إسرائيلية بهذا الاتجاه. الامر الذي يتطلب من الوزير شكري توضيح الموقف. لا سيما وأن الشعب العربي الفلسطيني يعتبر مصر وقيادتها سندًا استراتيجيًا ومركزيًا لحماية الحقوق والأهداف السياسية الفلسطينية، وثمنت مواقفها الأصيلة المعلنة، ولم تفقد الثقة بالرئيس السيسي ولا بحكومته الرشيدة، وبالتالي لا يجوز من حيث المبدأ السماح بالتهجير القسري للنازحين الفلسطينيين للأراضي المصرية. لأنه لا يخدم المصالح القومية الفلسطينية والمصرية والعربية عمومًا، لا بل العكس صحيح.