ثلاثة أسئلة كبرى تبدو ملحة حين يتعلق الأمر بغزة هذه الأيام.
أولاً: يهيمن النقاش حول مستقبل النازحين في رفح في ظل شهية الاحتلال المفترسة لمواصلة مذابحه وعدوانه ليصل إلى كامل محافظة رفح. لم يتوقف العدوان على رفح منذ اليوم الأول للعدوان، وأنا الذي عاش في الخيام هناك لأكثر من شهر شاهد على الكثير من ذلك، ولكن المقصود الآن عملية برية شاملة تجوس فيها الدبابات كل مناطق المحافظة. ما يعنيه هذا هو تهجير النازحين في الخيام الذين جاؤوا للجنوب من مناطق غزة وشمالها والآن من خان يونس وشرقها ومخيمات المحافظة الوسطى، وهذا يعني ليس استمرار الكارثة بل تفاقمها. لا يمكن استبعاد أي شيء لكن الذي يجب أن لا يحدث هو أن يتم تهجير شعبنا جنوباً باتجاه سيناء، لذا فإن ضغطاً دولياً يجب أن يتواصل من أجل منع إفراغ رفح من سكانها المؤقتين بكل الأحول، وأساس ذلك هو الوقف لإنهاء الحرب حتى يعود السكان إلى بيوتهم في مناطق القطاع المختلفة وليس إفراغ رفح من أجل تدميرها.
من المؤلم أن الوضع الإنساني في رفح لا يسترعي ولم يلفت انتباه العالم الأصم الذي لم يصدر عنه أكثر من مطالب جوفاء من دولة الاحتلال تشبه الرجاء بعدم تصعيد المذابح. كأن لسان حال العالم يقول: لا بأس اقتلوهم ولكن بالقليل من القسوة. ومن المؤلم أن أي تحرك تجاه رفح سيترك المزيد من الألم والخسائر، وأيضاً سيواصل المجتمع الدولي صمته الذي لا يقل بشاعة عن جرائم الاحتلال.
ثانياً: إن النقاش عن مستقبل غزة لا بد أن يرتبط ارتباطاً كاملاً بالحالة الوطنية الشاملة التي تنظر لغزة كجزء من فلسطين، فغزة ليست حالة منفصلة. وهذا يتطلب بدوره إعادة تدوير السؤال حول اليوم التالي للحرب ليس وفق رغبات واشنطن وتل ابيب بل من جهة المصلحة الوطنية العليا. وربما تأمل فكرة اليوم التالي يكشف الكثير من النوايا المبطنة حول مستقبل غزة. فثمة افتراض أن اليوم التالي للحرب سيختلف كثيراً عن أيام الحرب، إذ إنه يعني أن الاحتلال مثلاً سينتهي وأن دولة الاحتلال ستنهي احتلالها لغزة وحتى لو خرجت قواتها خارج تخوم الحدود المعروفة للقطاع فإنها مثلاً ستكف يدها بشكل كامل عن مصير القطاع. إن الانخراط بمثل هذا النقاش لا يساعد إلا في تعميق جرح غزة، فاليوم التالي للحرب مثله مثل يوم الحرب الأول يجب علينا فيه أن نبحث عما هو أفضل بالنسبة لشعبنا. ومن المؤكد أن أفضل شيء لغزة هو أن تظل جزءاً من الحالة الوطنية العامة ولا تنفصل عنها، وإن أسوأ ما فعله الانقسام هو أنه ظل يصور غزة بوصفها مكاناً قصياً لا علاقة له بمجمل الصراع. لاحظوا خطاب بعض الفضائيات حين يتم الحديث عن المقاومة «الغزاوية» أو الشعب الغزي. لا يوجد عبارات أبشع من تلك. صحيح أن المرء يفتخر أنه ولد في الجغرافيا وأنا كذلك، لكن في الموضوع الوطني ثمة وطن واحد اسمه فلسطين ننتسب إليه كلنا. وعليه فإن أي طرح ضمن تشكيل أجسام منفصلة لإدارة غزة يجب أن يتم النظر إليه بريبة. كما أن محاولات سلطات الاحتلال التواصل مع بعض المخاتير هو استعادة لروابط القرى حتى لو كان هذا التواصل بغية تمرير المساعدات الإنسانية في غزة وشمال قطاع غزة لأن ثمة قنوات دولية لذلك، ولا يجب بأي حالة أن يتم خلق أي أجسام تساهم في خلق مصير منفصل لغزة. وأعتقد أن مهمة الحركة الوطنية وفصائل العمل الوطني والإسلامي أن تتأكد أن غزة يجب أن تظل في قلب الحراك الوطني العام. بعد النكبة اختفى اسم فلسطين عن الخارطة ولم يتبق إلا الشريط الرفيع جنوب شرق المتوسط يشير لكلمة «فلسطين- قطاع غزة» وظل، كما يتذكر الجميع، اسم الحزب الشيوعي الفلسطيني موجود فقط في غزة. وهذه حكاية أخرى.
ثالثاً: يظل سؤال المساعدات وتوزيعها في قطاع غزة يشغل بال سكانها، إذ إنه السؤال الثاني من حيث الأهمية بعد رغبتهم بوقف الحرب وعودتهم إلى بيوتهم. من الواضح أن ثمة أزمة في توزيع المساعدات وفي حصول المحتاجين لها، وفي الاعتداء الوحشي المستمر على شاحنات المساعدات وربما تواطؤ في سرقتها. مساء أمس تلقيت الكثير من الاتصالات من الأهل والأصدقاء في شمال غزة بعد انقطاع لأكثر من شهر، والكل تحدث عن المجاعة وعن عدم وصول شاحنات المساعدات، وعن وجود عصابات منظمة تقوم بسرقة الشاحنات وعن عدم اكتراث أي جهة بوصولها بشكل منتظم لهم. الأمر أقل حدة جنوب الوادي حيث تدخل المساعدات. صحيح أن بعضها يتم سرقتها بشكل مباشر وبطريقة منظمة ولكن في نهاية المطاف ثمة مساعدات تصل. يجب أن يكون سؤال المساعدات في قلب أي نقاش حول واقع قطاع غزة، ويجب أن يكون هناك نقاش وطني حقيقي وجريء حول ذلك حتى لا يستمر الوضع الصعب ولا تقوم الحركة الوطنية عبر صمتها بإضعاف عزيمة شعبنا على الصمود. إن الأمن الغذائي أساس أي صمود وبقاء وفي حالتنا الفلسطينية يبدو الأمر صعباً.
ومع هذا يبقى السؤال الأهم: متى ينتهي العدوان؟ لا أحد يعرف. مرة أخرى نحن بحاجة لنقاش وطني جريء حول الكثير من القضايا حتى نحافظ على غزة وحتى تظل غزة غزة، وحتى تظل غزة نقطة ارتكاز في النضال التحرري وسيظل جوهر كل ذلك الحفاظ على شعبنا هناك والحفاظ على مصير غزة كجزء من الحالة الوطنية. للأسف ما ينقصنا أننا لا نتحدث مع بعضنا البعض ولا نسمع آراء بعضنا، ولا نجلس كعائلة تفكير في مصير المجموع. كم هو مؤلم هذا في ظل المصير الصعب الذي ينتظرنا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها