يامن نوباني
قبل الخراب الأخير، والإعصار والفيضان، وانهيار السدين، كانت درنة مدينة الأزهار والتاريخ والماء، الرمان–الشلفي الدرناوي-، والياسمين، مدينة الموز والنخيل، لؤلؤة برقة، درة البحر المتوسط وعروس ليبيا، قبلة المثقفين والشعراء في شرقي البلاد، مهد المسرح الليبي، بدايات كرة القدم الليبية، والتسامح الديني.
المدينة عاشت على أجهزة التنفس الثقافي والحضاري والاقتصادي والسياحي كثيراً، وكانت تنجو في كل مرة، وتحاول من جديد أن تستيقظ، وتنشر الجمال والزهور والفكر والفن في ربوعها، امتداداً إلى كل ليبيا.
يستظل المار في أسواقها بعرائش العنب الممتدة على السقوف، فيما تنتشر نوافير المياه في كل مكان، المقاهي العتيقة، أزقة الأسواق والاحياء، الجسور القديمة، الغطاء النباتي الكثيف والأحراش والحدائق.
درنة الواقعة على ساحل البحر المتوسط في شمال شرق ليبيا، يحدها من الشمال البحر الأبيض المتوسط ومن الجنوب سلسلة من تلال الجبل الأخضر.
يشطر المدينة مجرى وادي درنة أهم وادي في ليبيا إلى شطرين، واشتهرت بإطلالتها الطبيعية وبأحراشها الجبلية التي تسقى بمياه عذبة تتدفق إليها عبر قنوات الساقية من نبعين غزيرين هما: عين البلاد، وعين بومنصور، والذي تنحدر مياهه من ربوة عالية إلى الوادي ويسمى الشلال أو شلال بومنصور.
يقدر عدد سكان درنة بـ100 ألف شخص، وتبعد عن طرابلس نحو 1350كلم إلى الشرق، وعن البيضاء نحو 100 كلم إلى الغرب، وشرق بنغازي 300-350 كلم، وعن طبرق نحو 150 كلم.
تغنى الشعراء والكتاب والرحالة، بجمال درنة وبخضرتها النامية، وظلالها الوارفة، وبمائها العذب، وهوائها العليل، كرم أهلها ورقة طباعهم، وسماها بعضهم عروس ليبيا ودرة البحر المتوسط.
مدينة لا تستطيع إلا أن تحبها وتتعاطف مع تاريخ نكباتها المتتالية، جنت وأبدعت أقلام أبنائها – وأبناء المدن الأخرى- الكُتاب والشعراء في تفاصيلها، فمن بقي فيها بقي يكتبها، ومن غادرها وعاد إليها، كتبها، ومن لم يعد وأخذته المنافي بعيداً، ظل وفياً لدرنة التي ولد وجال في حاراتها، تنفس ياسمينها وتفيء في ظل عرائش عنبها.
المدينة التي صبرت على كل ما تعرضت له، لدرجة أن شارع الشاعر ابراهيم الأسطى، يُسمى "وسّع بالك" حيث درجت العبارة بين السائقين والمارة لكثرة الازدحام والمتاجر فيه.
في أزقة البلدة القديمة وكما يقال باللهجة الليبية "الزنقات" تنتشر الشرفات الخشبية، ونوافير المياه القادمتين من إثر مرور الأندلسيين بالمدينة، وفي بطن الوادي الذي يشق درنة نصفين مغارة كبيرة تسمى "الجباخانة" كانت مخزنا للبارود في العهد العثماني، وملجأ من الفيضانات والقصف في الحرب العالمية الثانية، واليوم تستخدم لتعليم الأطفال العزف على المزمار، كأكاديمية للموسيقى الشعبية دون أساتذة.
أهم معالم درنة:
-المسجد الكبير أو المسجد العتيق وله تسمية ثالثة أيضا "جامع البلاد". شيد سنة 1663، وقد تجلت فيه متانة البنيان ودقة الهندسة، وجمال الفن المعماري الإسلامي، فقد سُقف بـ(42 قبة) ذات أقواس هندسية، تحملها (30 سارية) من المرمر المصقول تحيط بها أركانه الأربعة، ونصب به منبر من "خشب السناج" نقشت حواشيه وجوانبه بنقوش بديعة، وله أربعة أبواب ويتسع لـ(2000) مصل.
إلى جانب مساجد أخرى في المدينة أبرزها: مسجد الصحابة والذي شيد سنة 1970، وقربه مقبرة الصحابة وفيها رفات 3 صحابة، وهم: زهير بن قيس البلوي، أبو منصور الفارسي، وعبد الله بن بر القيسي، و70 تابعا، ومساجد: الدرقاوية، الرشيد، الجربة، المسطاري.
- قنوات المياه الساقية: قنوات من الصخور شقت منذ مئات الأعوام لتروي الحدائق والبساتين، وحتى الاهالي في المدينة كانوا يشربون من هذه القنوات القادمة من نبع "عين البلاد" عذبة غزيرة، كما استخدمت في طحن الغلال عبر الطواحين الهوائية.
-سوق الظلام، ويعود انشاؤه إلى أكثر من 400 عام، وهو الأكثر شهرة في درنة، وقد لعب دوراً مهما في حياتها الاقتصادية والاجتماعية، تتنوع أبنيته بين الطرازين المعماريين العثماني والأندلسي، وتكثر فيه الاحواض ونوافير المياه. ويحتوي على أكثر من 100 محل تجاري.
وفي درنة أسواق أخرى، كسوق الخرازة، سوق الخضار، سوق الفردة، سوق الفندق، سوق التوانسة.
-الأحياء: الساحل الشرقي، الساحل الغربي، البلاد، باب طبرق، المغار، باب شيحا، الجبيلة، الكوي وبو منصور، الفتايح، وادي امبخ، السلام.
-الشوارع: شارع البحر، شارع الفنار، شارع عمر المختار، سيدس الوشيش، ، شارع شهداء الزاوية، شارع عمر فائق شنيب، شارع إبراهيم اسطى عمر، شارع الصوان، شارع الجامع، شارع الكنيسة، شارع البلاد، شارع الرشيد، شارع أحمد الرفاعي، شارع بلال
ومن معالمها أيضاً: الميناء، سينما الصيفي ومقهى الصيفي، مكتبة الصحابة سنة 1952، مقهى النجمة، مقهى الجبل، الشاطئ الصخري، الكورنيش، فندق لؤلؤة درنة، وشلال درنة.
-ميادين درنة وساحاتها العامة: ميدان الزاوية، ميدان الصحابة، البياسة الحمراء، وبياسة الطير.
درنة تاريخ من الفيضانات والمعارك والتفجيرات والتهميش
كانت درنة محط إهمال وتهميش تاريخي، عبر تاريخها الطويل شهدت عدة فيضانات أعوام "1941 - 1959- 1968/ 1969 - 1986- 2011".
في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1911، كما ذكر الطرابلسي في "درنة الزاهرة"، تعرضت المدينة لهجوم بالقذائف من قبل الاسطول الايطالي، فسيطر الجيش الايطالي على المدينة في اليوم التالي، واستمر احتلالها حتى العام 1945، تخلله سيطرة لبضعة أشهر في عامي 1941/ 1942 من قبل الجيش الألماني.
كان الضرر الأكبر الذي تعرضت له المدينة في كافة مناحيها، خاصة البنية التحتية والحرية والثقافة والسياحة والآثار هي الفترة التي سيطرت فيها الجماعات المتطرفة -حيث سيطرت الجماعات على حكم درنة بداية من شباط/ فبراير 2011 وحتى تحريرها في صيف 2018.
معالم كثيرة اختفت في السنوات السابقة في درنة، أبرزها: قوس شارع البحر، جسر وادي الناقة –جسر الوادي-، سينما التاجوري، المصلى، وجسر اللوح.
بعد عام 2018، بدأت درنة تتعافى قليلاً، وتلاشت عتمتها، مشدودة لماضيها الثقافي، فأخذت تتخلص من سوداوية المشهد الذي لازمها لسبعة أعوام فقدت خلالها رونقها الإبداعي وإرثها الحضاري المتميز، حيث جرى إعادة إحياء "بيت درنة الثقافي"، ومهرجان "درنة الزاهرة للمسرح"، و"مهرجان ليالي رمضان الثقافي الفني"، و"مهرجان ابراهيم الأسطى عمر للفكر والفنون"، والتجهيزات الأخيرة لافتتاح "مكتبة الملك إدريس الأول" في مبنى قصر الزهور سابقا، كما نشطت معارض وفعاليات كلية الفنون والعمارة بجامعة درنة، وفي عام 2021 افتتح معرض درنة للكتاب بمشاركة ما يقارب ال40 دار نشر وضم أكثر من 20 ألف عنوان، بعد توقفه كباقي الفعاليات الثقافية عدة سنوات.
هذه المحاولات لتنشيط الحالة الثقافية، وإعادة درنة إلى واجهة الحياة والإبداع، جرفتها قبل عدة أيام كارثة إعصار وفيضان "دانيال"، والتي أخذت معها أيضاً أحد أبرز الوجوه الثقافية في المدينة، الشاعر مصطفى الطرابلسي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها