فتح ميديا - لبنان

الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات لا مصلحة له إطلاقاً في أن يسود الانقسام بكل تداعياته، وأن يلقي بظلاله على المجتمع الفلسطيني المتعطِّش لمقاومة الاحتلال، والرافض تاريخياً للصراعات الداخلية تحكم تعلقه بقضيته الوطنية، هذا التعلُّق المبدئي القائم على الأصالة والمصداقية.

الذي حدث في العام 2007 في حزيران هو إنقلاب، بل إنقلاب دموي بكل ما في الكلمة من معنى، والضحايا يشهدون على ذلك، والمأساة الوطنية تبكي ضحاياها ومازالت. كان الجرحُ عميقاً نازفاً ومازال، ولكن هل هذا قدرٌ محتومٌ؟ وهل سيتواصل النزيف؟ ولمصلحة من؟

حركة فتح التي دفعت ثمن الانقلاب ومازالت لم تغادر المربع الوطني الذي يضع على سُلَّم أولوياته الوحدة الوطنية، لأنَّ في وعيها الوطني قناعة بأنَّ الوحدة الوطنية هي المخلِّص من الاحتلال، وهي المحرِّك للمقاومة، وهي المحصِّن للمفاوضات، وهي الطريق المرتجى لتحقيق الطموحات، وبلورة القناعات.

ولأن حركة فتح تؤمن بالوحدة الوطنية، وترفض الإنزلاق الجماعي إلى الهاوية المنتظرة التي حضَّرتها وعمَّقتها حكومة الاحتلال، فإنَّ فتح الرائدة التي خسرت نفوذها العلني في قطاع غزة لم تفقد توازنها الوطني رغم المرارة وشدة الصدمة.

فرغم كل ما جرى ومازال يجري فإنَّ حركة فتح تنازلت عن مطالبها المحقة التي سبَّبها الانقلاب، ووافقت بل سعت جادة لبدء المباحثات والحوارات مع حركة حماس، وفي أكثر من عاصمة عربية وأهمها القاهرة التي فتحت أبوابها مُشرعة منذ العام 2008 لتستقبل الوفود الفلسطينية، وتسهِّل عملية الحوار بينها، هذه الجولات من الحوار التي أسفرت وبعد جهد جهيد عن وثيقة مصرية أصبحت فيما بعد هي وثيقة المصالحة الفلسطينية الفلسطينية، والتي تم التوقيع عليها من قبل الطرفين بحضور كافة الفصائل الفلسطينية إضافة إلى الراعي المصري، لتبدأ إنطلاقة جديدة للمصالحة أكثر جدية ووضوحاً.

وبسبب الخلافات الداخلية عند حركة حماس حول مصيرها في قطاع غزة فيما لو تمت المصالحة، وها هي الاستحقاقات المطلوبة منها لترجمة إتفاق المصالحة، فإنَّ تراجعاً حصل في عملية التنفيذ تحت ذرائع مختلفة، متسلِّحين بمبررات لا صحة لها إطلاقاً، معتمدين على شنِّ هجمة سياسية تستهدف الرئيس أبو مازن عند ذهابه إلى الأمم المتحدة متهمةً إياهُ بأنه يريد تصفية حق عودة اللاجئين، هذا الجنوح السياسي حصل من بعض قيادات حماس في غزة، بينما قيادات أخرى وفي مقدمها خالد مشعل كان متَّزناً في تصريحاته وسجَّل احتراماً للعلاقات الفلسطينية الفلسطينية، خاصة في ما يتعلق باستحقاق تقديم طلب نيل العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.

الرئيس أبو مازن تعاطى بالمقابل بإيجابية مطلقة مع صفقة تبادل الأسرى التي نفذتها قيادة حماس ونأى بنفسه عن ذكر السلبيات واعتبر عملية تحرير الأسرى بغض النظر عن الشوائب إنجازاً وطنياً فلسطينياً، ودعا قيادة حركة حماس في الضفة الغربية إلى حفل استقبال الأسرى المحررين، وكانت كلمة له بهذه المناسبة، وكلمة أيضاً لحركة حماس، وهذا ما أوجد ارتياحاً لدى أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات.

إنَّ مثل هذه المواقف التي تتسم بالإيجابية تؤكد أنَّ إمكانية تجاوز الواقع الحالي ممكنة وليست معقدة ولا هي بالأسطورة.

فالارض فلسطينية، والانسان فلسطيني، والتاريخ واحد، واللغة واحدة، والدين واحد، والاحتلال واحد، والمقبرة واحدة، والطموحات واحدة، فلماذا التردد، ولماذا الإصرار على إبقاء الحال على ما هو عليه؟ والسؤال الأهم هو هل هناك شك عند أي طرف من أبناء القضية الفلسطينية بأنَّ المستفيد الوحيد من الانقسام – وهذا ما أثبتته الوقائع – هو العدو الاسرائيلي؟ ألم يُصرِّح المسؤولون الاسرائيليون علناً ودون خجل أو تردد بأن المصالحة الفلسطينية ستدمِّر عملية السلام؟ وأنَّ إسرائيل لن تُسلِّم أموال الضرائب المستحقة للفلسطينيين إذا تمت المصالحة؟ ألم توجِّه إسرائيل المحتلة لأرضنا الانذار للرئيس أبو مازن بأن يختار بين حركة حماس أو عملية السلام، فكان جوابه أنَّ حركة حماس جزء لا يتجزَّأ من الشعب الفلسطيني، وأنَّ المصالحة هي التي تؤسس لعملية السلام؟.

حركة فتح في خطابها السياسي وتأكيداً منها على إتمام المصالحة وعلى حسن النية لم تعد تذكر كلمة " الانقلاب" وانما استبدلتها بكلمة " الانقسام" وهذا المصطلح هو نفسه الذي تستخدمه حركة حماس وكافة الفصائل الفلسطينية، بمعنى أوضح التزمت حركة فتح بالسياق الوطني العام الذي يقرِّب المفاهيم، ويوحِّد الاهداف، وأصبح إنهاء الانقسام يعني لدى الجميع وحدة الأرض والشعب، كما يعني الوحدة الوطنية، والاتفاق على البرنامج السياسي، وبالتالي تصبح المصالحة أمراً واقعاً.

بجرأة نقول للجميع من الصعب أن تتحقق المصالحة الوطنية الشاملة ما لم نتجرَّأ على إزالة الاسباب التي أدت إلى هذا الانقسام، وأهم هذه الأسباب وأخطرها هي تكريس ثقافة الانقسام القائمة على ترسيخ الاحقاد، وفقدان التسامح، وفتح أبواب الفتنة، واستبدال المحبة بالكراهية، وتكفير الآخر من أجل استباحة دمه، وتخوينه من أجل إقصائه. هذه الثقافة المدمِّرة يجب شطبُها نهائياً وبكل الوسائل من تعبئتنا الوطنية الداخلية التي تتم بين أربعة جدران والأبواب والنوافذ مغلقة، وأيضاً من خطابنا السياسي  على المنابر، وعلى صفحات الجرائد والمجلات، وعبر القنوات والاذاعات.

فلنتَّقِ الله في أجيالنا، وفي شعبنا، وفي قضيتنا، ولنتقِ الله في القول والفعل والعملِ... من هنا تبدأ المصالحة الحقيقية.