فتح ميديا - لبنان

استبشر العرب بربيع سنة 2011، ولا سيما بعد الانتفاضة في تونس ومصر. لكن ربيع العرب تحول الى أنهار من الدم في ليبيا، وها هو يتحول الى أزمة مستعصية في سورية واليمن. ولعل ذلك مدعاة للإحباط بعد الوعد بالحرية والديمقراطية والتغيير والإزدهار. وأكثر ما يخيفنا، ولا سيما نحن الفلسطينيين، أن تعم النزاعات الأهلية معظم البلدان العربية، وحينذاك، ستضيع قضية فلسطين في معمعان  الفوضى الرعبية. واذا كان كثيرون منا قد استبشر فعلاًً بعصر عربي جديد تسوده الديمقراطية بعد ليل طويل من القمع والاستبداد، فإن من الضروري وضع الأمور في نصابها التاريخي، فالثورات لا تؤدي تلقائياً الى الحرية والديمقراطية كما يتوهم كثيرون. فالثورة ضد شاه ايران في سنة 1979 لم تجلب الديمقراطية الى ايران بل جاءت بالحكم الديني، والثورة التي قادها الضباط الأحرار في مصر سنة 1952 ضد الملك فاروق لم تأتِ بالديمقراطية. والثورة الشعبية ضد فوضى المجاهدين المتقاتلين في أفغانستان، حملت حركة طالبان الى السلطة، فكان أن فرضت طالبان على الشعب الأفغاني استبداداً من عيار القرون الوسطى. والثورة الروسية التي قامت ضد الاستبداد القيصري في سنة 1917 جاءت بالاستبداد الستاليني. الآن، يحق لنا أن نتساءل، في خضم ما يجري حولنا في العالم العربي: هل دخلت المنطقة العربية في عصر التدخلات الخارجية مجدداً؟ هل ستمهد الفوضى العربية التي تلوح في الأفق للتدخّل الأجنبي في بلادنا، الأمر الذي يعيدنا الى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى؟ ما جدوى هذه الانتفاضات، مع مشروعيتها وضرورتها، إذا كانت ستعيدنا الى عصر الانتداب الغربي، والتحكم الأجنبي بإرادتنا السياسية وبقرارنا الاقتصادي؟ وأبعد من ذلك، وقبل ذلك كله، أين موقع فلسطين في الانتفاضات العربية الجارية الآن؟

الحرية أولاً وأخيراً

لا يستطيع الفلسطينيون، مهما يكن انتماؤهم السياسي أو الفكري، أن ينكروا على أشقائهم العرب سعيهم الى الحرية وتطلعهم الى الديمقراطية، لأنهم، بكل بساطة، هم المعنيون، قبل جميع العرب، بالحرية: حرية شعبهم وتحرير وطنهم. فمن العار على من قدم آلاف الشهداء في سبيل الحرية أن يقف ضد طلب الحرية في العالم العربي. لكن الأمور السياسية لا تجري الآن على هذا النحو من البساطة. فالمجتمعات العربية شديدة التعقيد في بناها الاجتماعية، وفي تشكيلاتها البشرية الموروثة والقائمة على "مؤسسات" ما قبل الدولة كالعشيرة والطائفة والمنطقة وغير ذلك. وأي محاولة قسرية خارجية لتغيير هذا الواقع المتشابك من شأنه أن يفتح الأبواب لعواصف هوجاء ربما تتخذ شكل الحرب الأهلية المتمادية وفي هذه الحال ستتمزق هذه المجتمعات تمزيقاً دموياً، وستتطاير الحرية فيها هباءً منثوراً، لأن الحرية والحروب الأهلية والنزاعات المحلية أمور لا يمكن أن تلتقي في مكان واحد، ولا سيما أننا شهدنا براهين كثيرة على ذلك في لبنان والعراق والصومال وحتى في قطاع غزة في سنة 2006 فصاعداً.

فلسطين والانتفاضات العربية

الراجح أن الانتفاضات العربية الحالية لا تمتلك حساسية قومية واضحة نحو فلسطين، وتكاد كلمة "فلسطين" لا ترد في مواقف قادة هذه الانتفاضات إلا لماماً، وبصورة خجولة، أو في سياق الإجابة عن أسئلة الصحافيين. وعلى سبيل المثال، فإن السفارة الاسرائيلية في القاهرة لم تتعرض لحجر واحد طوال أيام الانتفاضة المصرية، لكن، بعد مقتل الجنود المصريين الستة في سيناء تحركت الوطنية المصرية، وهاجمت الجموع مقر السفارة الاسرائيلية. ونقل الصهيوني الفرنسي برنارهنري ليفي الى نتنياهو، على لسان مصطفى عبد الجليل انه وعده بعلاقات وطيدة بين ليبيا واسرائيل في ما بعد. وبرنار هنري ليفي نفسه عقد في باريس ندوة " قواعد اللعبة" في 4/7/2011 حضرتها مجموعة من أصدقاء اسرائيل ومن المعارضة السورية ولم يتورع السوري ملهم الدروبي (من الاخوان المسلمين) ومعه لمى الأتاسي عن حضور هذه الندوة. وحتى "وثيقة الأزهر" الصادرة في تشرين الثاني 2011 لم تذكر فلسطين البتة.

قبل ذلك،قدمت الثورة الفلسطينية دعماً معروفاً للثورة الأرترية، وما إن استقلت هذه الدولة عن الحبشة حتى بادرت الى افتتاح سفارة لاسرائيل في عاصمتها أسمرة. وكان أول ما قامت به دولة جنوب السودان هو إقامة علاقات فورية مع اسرائيل.والرئيس العراقي جلال الطالباني الذي طالما تلقى الدعم من القادة الفلسطينيين (ومن الشهيد وديع حداد) لم يتورع عن التصريح بالموافقة على عودة اليهود الأكراد الى شمال العراق. ومع أن هذا الموقف ربما يُفسر بالموقف الانساني البسيط، إلا انه لم يطلب عودة الفلسطينيين الى ديارهم.وبعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين تقاطر على اسرائيل كثير من العراقيين أمثال كنعان مكية ونجم والي وعبدالقادرالجنابي (وهؤلاء كتاب وشعراء)، ومثال الألوسي الذي صار نائباً في البرلمان العراقي،ولم يقل لهم أحد لماذا فعلتم ما فعلتم.

ما السر؟

من الصعب الإحاطة، على وجه الدقة، بالأسباب الجوهرية لانحسار حضور قضية فلسطين في خطاب الانتفاضات العربية. إلا أن من الممكن وضع بعض الخطوط العامة كمحاولة أولية للاجابة عن ذلك. وفي هذا الميدان يمكن أن نرصد الظاهرة التالية: إن معدل العداء لاسرائيل والصهيونية يتفاوت كثيراً بين جماعات الاسلام السياسي في هذا البلد العربي او ذاك. فبينما نجد في فلسطين عداء كاملاً لاسرائيل لدى المجموعات الاسلامية السياسية، نرى ان البعض أمثال المفكر الاسلامي محمد قطب كان يرفض اعتبار فلسطين قضية العرب الأولى، وكان يرى أن قضية فلسطين مجرد واحدة من قضايا المسلمين الأخرى مثل قضية الشيشان وجنوب الفلبين وقبرص وتايلاند وغيرها. ومهما يكن الأمر، فان الحركة الاسلامية في فلسطين لم يكن لها شأن يُذكر في النضال الوطني، وكانت ذريعة "الإخوان المسلمين" أن الأولوية هي لإصلاح الفرد وبناء المجتمع الاسلامي الصحيح قبل إعلان التحرر الوطني إلى أحوال وشروط ربما لن تتحقق. وبناء على هذا التصور أو الاعتقاد استنكف الاسلاميون، طوال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، عن المشاركة في النضال الوطني. والمعروف أن عدد المتطوعين الذين أرسلتهم جماعة الاخوان المسلمين الى فلسطين في حرب 1948، وهم من مصر وسورية والأردن وأقطار أخرى، بلغ 417 متطوعاً فقط. وهذا يُعتبر عدداً ضئيلاً لحركة فاق عدد أعضائها المليون في تلك الفترة. وبعد نكبة 1948، برز تيار القومية العربية وتيار اليسار، لكن معظم الجماعات الاسلامية السياسية وقف مع السعودية والأردن آنذاك ضد مصر وجمال عبد الناصر. وعند إعلان قيام حركة "فتح" عارضها الاسلاميون لأنها دعت الى تأسيس دولة ديمقراطية في فلسطين، وكذلك عارضوا منظمة التحرير الفلسطينية لأنها – بحسب دعايتهم – منظمة علمانية ورفضوا الانضمام اليها، مع أنهم عملوا في إطار النظام الأروبي والنظام المصري اللذين وقعا معاهدتي سلام مع اسرائيل.

لا ريب في أن التيار الاسلامي يمتلك حضوراً قوياً في الانتفاضات العربية، وهذا ما بات واضحاً في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا. غير أن الواضح تماماً أن حضور قضية فلسطين ليس قوياً في الأدبيات السياسية لهذه الانتفاضات. فهل إن وهن علاقة الاسلاميين العرب بقضية فلسطين هو السبب في ذلك، أم أن هناك أسباباً أبعد من ذلك؟ والجواب يحتاج الى مزيد من التأمل.