على الرغم من انقضاء زهاء الأسبوع على عودتهم من أرض الوطن، ما زال الوفد الشبابي المشارك في الملتقى الثقافي التربوي الفلسطيني الثالث الذي انعقد للمرة الأولى في فلسطين، غير مستوعب وغير مصدق لحقيقة ذهابهم الى أرض الوطن وعودتهم الى مخيمات اللجوء. فالأيام العشرة التي قضوها هناك تحت سماء فلسطين التي جمعتهم بباقي أجزاء الوطن من مخيمات سوريا والأردن والضفة والداخل وبعض الدول الأوربية والعربية، مرّت كلمح البصر. فالتجربة أجمل وأروع من أن تصدق.

وليحدثنا أكثر عن حلاوة تجربة العودة الى الوطن، ومرارة الانتزاع منه وفراقه،  كان لمجلة "القدس" لقاء مع رئيس اتحاد الفنانين الفلسطينيين في لبنان محمد الشولي ومسؤولة فرقة "الكوفية" حورية الفار، للاطلاع أكثر على تفاصيل رحلتهم الى الوطن.

يحاول الشولي استرداد شريط ذكريات الأيام العشرة التي قضاها في ربوع الوطن، ليستحضر أكثرها تأثيرا بالنسبة له وللوفد الذي تولى مسؤوليته والمؤلف من 34 شابا وشابة  من بينهم أطفال. يبدأ بالصعوبات التي تعرضوا لها على الحدود الأردنية ولحظة تبليغهم بالصعود الى الحافلة والعودة من حيثوا أتوا، واصفا لحظات الألم والخيبة التي ما لبثت أن تحولت الى بهجة بعد إجراء اتصالات مع مسؤولين معنيين لحل الإشكالات القائمة. ويسرد عن القلق الذي كان سائدا حول كيفية التعامل مع  لحظة المواجهة مع الاحتلال، إلا ان تلك اللحظة "وضعتنا في موقع المواجهة مع العدو من الند الى الند، بحيث لم يكن هناك وجود لأي رهبة أو خوف منه"، لدرجة أن إحدى الفتيات الصغيرات بادرت بالقول للمجندين الصهاينة "ما تختمولي عل باسبورت، بديش أفرجيكو اياه" بكل ثقة وعنفوان، مستذكرا لحظة الوصول الى أريحا حيث "كل المعاناة ذهبت، إذ كان لنا استقبال مميز على المستويين الشعبي والرسمي"، متابعا القول: "منذ وصولنا الى فلسطين شعرنا بالتحرر وهذا الشعور بالتحرر جعلنا ننظر لكل الأمور بصورة جميلة ووردية، فلم نعد نشعر باللجوء. بتنا نعيش في وطننا وبين شعبنا وشعرنا بالانتماء وباكتمال انسانيتنا، وهذا الشعور نفتقده في اللجوء كوننا بشرا مع وقف التنفيذ".

ومن المواقف المؤثرة بحسب الشولي، هو امتلاك شعبنا للكثير من الاعتزاز والكرامة، والشوق للمّ شمل كامل الشعب الفلسطيني في العالم، الأمر الذي عكس نفسه تعاطفا وإقبالا من الناس لاستضافتهم والتحدث معهم والاستماع اليهم، لا بل معاملتهم معاملة خاصة كونهم من لاجئي لبنان الأكثر معاناة، وتتوجت هذه المشاعر في الاحتفال الذي أحيته فرقتا "الكوفية" و"نهوند" المقدسية في القصر الثقافي في رام الله حيث اختلطت الدموع وتوحدت المشاعر.

أما اللحظة الأكثر تأثيرا فكانت بزيارة القدس، "انت بلحظات أمام هذه الهالة.. أمام عاصمة السماء.. امام عروس العواصم مدينة الأديان التي ما كنت تحلم بيوم من الأيام بزيارتها. تشعر بحضرتها بشعور لم تشعره من قبل ولا يمكن وصفه بالكلمات"، واصفا حالة إغماء حصلت أمام عظمة المشهد، وقرار البعض المشي حفاة طوال تواجدهم على أرض القدس، وبكاء آخرين بشكل شبه هستيري.

 

أما أكثر ما صدمهم، فكان جدار الفصل العنصري الذي يخنق الضفة ويحولها لسجن كبير، والحواجز والمستوطنات التي تقطع أوصال الضفة، "أدركنا ان هذه المستوطنات ما هي إلا كالفقاقيع التي تزيلها الأمواج... فهي ستزول بإرادة الشعب في مقاومة الاحتلال. فوجودها وجود سياسي وليس جغرافي لاستخدامها كبند للضغط على الجانب الفلسطيني في المفاوضات"، مستطردا عن زيارتنا لبلعين حيث المقاومة الشعبية ضد جدار الفصل العنصري وحيث أبهى أشكال الإصرار والصمود والتحدي والبطولة تترجم أسبوعيا في وجه الاحتلال. هناك حيث الأهالي والوفد بكوفياتهم غنوا على أنغام "القربة" أغاني ثورية ورقصوا على أنغامها دبكات فلسطينية، تحدوا خلالها "الجيب" العسكري الإسرائيلي المتأهب على تلة قريبة مقابلة.

وكان في لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس والوفد فرصة لنقل ما شعر به الوفد بالتحرر من وصف "لاجىء" ولو لعشرة أيام، ولنقل رسالة باسم اللاجئين مفادها "تنفيذ وصية الرئيس الشهيد ياسر عرفات بتحريرنا الى الأبد من كلمة لاجىء وان تكون عودة اللاجئين الى الوطن من أولويات النضال". وحملوا بدورهم لأهالي اللجوء في المخيمات بأن اللقاء قريب على أرض الوطن فقليل من الصبر وسيتحقق الحلم الفلسطيني بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين.

ويرى الشولي بعقد الملتقى الثقافي التربوي الثالث في فلسطين "خطوة سيتبعها خطوات زادت من إصرارنا للنضال من أجل العودة، وجعلتنا أكثر تمسكا به، فبها زاد أملنا وقناعتنا بأن العودة محتمة".

وعند الرحيل ، كانت اللحظة الأصعب والتي لم يجد كلمات لوصفها إلا من خلال تشبيه الحالة بانتزاع طفل عن حضن أمه، موضحا "شعرنا بالانهيار والضعف.. كنا نغادر وطننا لنعود لاجئين من جديد... كثير من الوفد رفض الصعود الى الحافلة ومنهم فتاة ظلت متمسكة بشجرة رافضة العودة". لحظات بدا الجميع عاجزا عن ضبط عواطفه، "بكينا كالأطفال". خاتما بالقول أننا شعب يستحق الحياة وبأن الحياة التي نستحقها نستحقها على أرض فلسطين، موجها التحية والشكر لطاقم اللجنة الوطنية للثقافة والتربية والعلوم.

 

"ليتها كانت عودة بلا رجعة"

بعد تحديد عدة مواعيد للرحلة الى فلسطين والوفاء بالوعد الذي حصلت عليه وفرقتها "الكوفية" لفوزهم بالجائزة الأولى في مسابقة أفضل فرقة رقص تراثية ضمن احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية، قطعت حورية الفار مسؤولة فرقة "الكوفية" الأمل بإمكانية الوصول الى فلسطين، معلّقة انها كانت تشعر حينها " انه حتى الحلم استكتروه علينا، حتى الحلم خسارة فينا". إلا أن حرقتها هذه تبددت حين أكدوا لها أنها ستزور أرض الوطن، وأنها وفرقتها "الكوفية" الى جانب مجموعة من الشباب سيتمكنون من دخول فلسطين من بوابة مؤتمر الاستثمار الدولي الذي عقد في حينه ببيت لحم. أثلج الخبر قلبها، فبعد طول انتظار وترقب جاءها الخبر، واعدا إياها بلقاء شقيقها الذي لم تره أيضا منذ عقود.

الخبر أيضا لم يكن بالحسبان بالنسبة لأعضاء الفرقة التي لم ينل كامل أعضائها التصاريح اللازمة، ومنهم من لم يمتلك وثيقة سفر ومنهم من كانت وثائق سفرهم منتهية الصلاحية والوقت ضيق لا يسمح لاستصدار وثائق جديدة. هكذا انطلقت الفرقة لتكون خير سفير للمخيمات المتمسكة بتراثها وإرثها الشعبي الذي يحاول العدو سرقته ونسبه إليه زورا.

لم تصدق حورية ان حلمها بات حقيقة إلا عندما وطأت قدميها الأردن، فهي من الفردين اللذين حصلا على تصريح للمرور بالاراضي الأردنية لكونها تحمل جواز سفر لبناني. عندها فقط شعرت انها تعيش حلم العودة، أفكار كثيرة بدأت تراودها كيف ستلتقي وجها لوجه مع جنود الاحتلال؟ كيف ستدخل تحت العلم الاسرائيلي الى فلسسطين؟ "قررت وقتها ان اترك كل تلك الأفكار وأعيش كل لحظة بلحظتها، كنا نشعر بأن كل دقيقة تأخرنا وتبقينا بعيدين عن فلسطين كالساعات". ومع الاقتراب من فلسطين تبيّن أن الحلم بفلسطين شيء، وواقع أنك تشاهدها أمامك شيء آخر، "فلسطين كانت أكثر من توقعاتنا، كان هناك ذهول بما رأيناه، فلسطين جنة على الأرض".

تردد ما قاله بعض أعضاء فرقتها، عن شعورهم بشيء غريب يتحرك داخلهم، شعور غريب شعور بالحنان تجاه الأرض. هذه الأرض التي أكلوا من ثمرها أخيرا وشربوا من مائها، لمسوا ترابها، تذوّقوها، عاشوها واختبروها بحواسهم كلها. شعروا بالانتماء اليها، برابط قوي معها كأنهم ما غادروها أبدا، "شعرنا برابط قوي شعرنا بالانتماء كأننا نعرف الناس الذين التقينا بهم منذ دهر وأكثر...نحن جسم تجزأ والتقى برحلة العودة للوطن".

كان أكثر ما صدمها هو المعابر والحواجز، "لطالما كنا نسمع عن معبر قلنديا، لكننا اختبرنا ولو ليوم واحد ما يعانيه شعبنا الفلسطيني بشكل يومي في تحركاته وتنقلاته، واختبرنا كيف يقوم جنود الاحتلال بالمستحيل لإذلاله وهو صاحب الحق". من الأمور الأخرى التي لامستها  وجود معاناة طبقية في المجتمع الفلسطيني تماما كما في الشتات فهناك طبقة "المرتاحين والميسورين" وطبقة "المعتـّرين".

وهي تتفق والشولي بأن اللحظة الأكثر تأثيرا هي لحظة الدخول الى القدس ومشاهدة المسجد الأقصى وقبة الصخرة تعكس بهاء لون شمس كبرتقالة يافاوية لترسم حولها هالة مقدسة. "شعرت بقلبي ينبض كما للمرة الأولى، شعرت بحنان أم تلد مولودها الأول"، تقول. "عندما ترجلنا من الحافلة الى جبل الزيتون، شيءغريب تملكنا وحثنا للإسراع بخطواتنا، وهذا ما حدث لم نعد نشعر بخطى أقدامنا شيء أقوى منّـا سيطر علينا وسرّع من خطواتنا، كما يحدث في تشييع شهيد ما، تشعر وكأن التابوت يطفو ليصل سريعا الى الجنة". حينها يدرك المرء بأن فلسطين تستحق كل قطرة دماء، "ونحن مستعدون للنضال من اجلها مهما طال الزمن"، راجية لو كان بإمكانها المكوث هناك ولو في خيمة "هناك مناطق واسعة وفارغة في الضفة، لنعيش فيها نحن موافقون...على الأقل سنكون في فلسطين"، مشددة على ضرورة التمسك بحق العودة، ناقلة رسالة الداخل الى الشتات بأن اللقاء قريب وأن العودة الى فلسطين محررة أقرب بكثير.

حتى هذه اللحظة، تبقى حورية ككثيرين ممن تباركوا برؤية فلسطين، غير مصدقين أنهم كانوا فعلا هناك على أرض الوطن. فضل يدينون بالشكر والامتنان فيه للجنة الوطنية للتربية والثقافة وعلى رأسها اسماعيل تلاوي، وجنود آخرين مجهولين جعلوا من الواقع أجمل بكثير من الحلم.  حلم سيتحقق طالما  أن "البلاد بعدها ما نسيت ومشتاقة لأهلها".