إيهاب الريماوي
في ليلة صيفية عادية من عام 2008، اقتحمت وحدة القمع في سجون الاحتلال الإسرائيلي "النحشون" غرفة رقم 6 بقسم 8 في سجن "أوهالي كيدار"، قلبت الغرفة رأسا على عقب بحثاً عن شيءٍ ما، وبعد تفتيش طويل عثرت على ضالتها... عثرت على النبتة الخضراء، صادروها وانسحبوا.
قبل هذه الحادثة بأسابيع كان الأسير حسام شاهين المحكوم بالسجن 27 عاماً، قد تمكن من إدخال النبتة بعد قطفها بعيداً عن أعين السجان أثناء ذهابه لعيادة السجن، وضعها في كأس من البلاستيك، وحتى تبقى على قيد الحياة جمع بقايا التراب من البصل الذي يأتي للسجن.
أصبحت هذه النبتة رفيقة الأسرى، حافظوا عليها وتسابقوا على سقيها، حتى أنهم كانوا يشكلون دائرة حولها في الليل ويضعوها في المنتصف، كطفلة صغيرة مدللة.
"قيمة النبتة بالنسبة للناس العاديين هي أمر عادي، لكن في السجون عندنا نعثر على زهرة ظهرت في جدران السجن فإن الأسرى يقفون طويلاً أمامها، يندهشون لجمالها ومنظرها، مع أنها لا يمكن أن تلفت نظر من هو في الخارج، إلا أن وجودها يضيف لوناً جديداً لعيوننا، التي اعتادت الألوان القاتمة التي تفرضها علينا إدارة سجون الاحتلال"، يقول الأسير المحرر إسماعيل عودة (51 عاماً) من بلدة دير عمّار شمال غرب رام الله الذي قضى في سجون الاحتلال 20 عاماً
ويضيف: "عنوان السجن هو الحرمان، نحن لا نشاهد سوى الجدران المقفرة، والأبواب الحديدية المطلية باللون الأزرق، فإدارة السجن تحرمنا من رؤية أي لون آخر غير اللون القاتم، فهذه النبتة كانت متنفسا لنا، ومصدر سعادة وطمأنينة".
أدرك عودة أن عليه أن يتخلى مؤقتاً عن مساعيه اليومية البسيطة، وأن ينساها طالما هو في السجن، فالحياة الحقيقة بالنسبة له أصبحت من ورائه، وأن الحياة هي التي تقع خارج ذلك الجدار والأسوار الشاهقة، والأسلاك الشائكة.
تواصل بقشر الجزر
يروي الأسير المحرر عبد السلام أبو محسن من مدينة طوباس، والذي أمضى 20 عاماً في سجون الاحتلال عن تجربته في استغلال أبسط الأشياء، والتي كانت بالنسبة له لا تقدر بثمن.
حين اعتقل أبو محسن عام 2002، نقل مع عدد من رفاقه إلى مركز تحقيق الجلمة، وهناك وزعوا على عدة زنازين، وواجهوا تحقيقاً قاسياً.
"كنت أخضع لجولات طويلة جداً من التحقيق، وبعد عدة أيام، كان يتم نقلي مؤقتاً إلى زنزانة خلال جولة التحقيق، وأبقى لعدة ساعات فيها حتى يتم بدء التحقيق من جديد، وهناك كان يقدم لنا طبق من قشر الجزر مضاف إليه السكر، وصحن صغير فيه قليل من اللبن". يقول أبو محسن.
استغل أبو محسن قشر الجزر بسبب انعدام إمكانية التواصل بينه وبين رفاقه الأسرى، وحفر بأظافره على القشر اسمه والتاريخ، حتى عندما يأتي أسير آخر من رفاقه لذات الغرفة التي يوضع فيه الأسير خلال جولات التحقيق، يعرف أنه ما زال موجوداً في التحقيق.
ويضيف:" فعلاً بعد أن تم إعادتي إلى ذات الغرفة بعد مدة، اكتشف أن أحد رفاقه قد شطب اسمي والتاريخ، ووضع اسمه والتاريخ الذي كان يصادف ذات الفترة التي كنت فيها في ذات المكان، وعرفت حينها أنه ما زال يخضع للتحقيق".
وفي حادثة أخرى، وخلال التحقيق معه تمكن أبو محسن من الحصول على ريشة قلم حبر كانت تحت طاولة المحقق، وسحبها دون أن يلاحظه، وأبقاها في قبضة يديه عدة ساعات، وعند نقله إلى حمامات "الدش" كان يخط اسمه، ويكتب رسائل تحفيزية لمن يأتوا بعده من أسرى.
"بذر الكلمنتيا رفيق الزنزانة"
وفي أحد زنازين سجن عسقلان، زج الأسير المحرر غسان سطوف نهاية تشرين ثاني/ نوفمبر 2020، وخضع لتحقيق استمر لمدة أربعين يوماً، وزنازين عسقلان تقع تحت الأرض، حيث لا يدري الأسير إن كان الوقت نهاراً أو ليلاً، لكن هو الحدس الذي يسير عليه الأسير للتعرف على الأوقات.
مع مرور الأيام في الزنازين، أصبح سطوف يبحث عن أمر يكسر فيه حالة الملل وساعات الانتظار الطويلة التي يبقى فيها في الزنزانة، فزنزانته لا تحتوي إلا على فرشة وحرام فقط، ما شكل لديه حالة من افتقار أبسط الأشياء.
"كان إضافة إلى الطعام الرديء المقدم، يتم تقديم حبة كلمنتيا مع كل وجبة، والحبة هذه تحتوي على عدد من البذور، وخلال 20 يوماً تمكنت من تجميع أكثر من 50 بذرة، احتفظت بها، وأصبحت هذه ملاذي للهو بعيداً عن حالة السكون القاتم الذي كنت أعيشه".
"أكبر أحلامي.. أن أخرج للفورة بأي وقت"
يتحدث الأسير المحرر أبو محسن، عن واقعة حوار جرى بينه وبين أحد الأسرى الجدد، الذي كان يتحدث بشغف عن التطور التكنولوجي الحاصل خارج أسوار السجون، والسيارات الفارهة التي بدأت تعج في الشوارع.
ويقول:" كان قد مضى على اعتقالي حينها ما لا يقل عن 15 عاماً، فأكبر أحلامي كانت أن افتح باب الزنزانة وقتما أشاء، وأخرج للساحة لساعات دون أن أكون مربوطا بوقت محدد للخروج والدخول، فقلت له أن كل هذا التطور الذي تتحدث عنه لا يساوي شيئا أمام حريتي بالخروج للفورة في أي وقت".
هي أشياء بسيطة بالنسبة للناس خارج السجن، لكن قيمتها للأسير كبيرة جداً، فالأسرى خاضوا معارك طويلة للحصول على مكاسب لا تعتبر بالنسبة للناس العاديين بأن لها قيمة، لكن هذه قيمة فقد الأشياء التي لا يحسها إلا الأسير نفسه.
المعلقة، مثلاً هي بلا قيمة أو لا تلفت الانتباه أبداً، والحقيقة أن الأسرى يبذلون جهداً واسعاً للحصول عليها، وفقدانها يعني أنك محروم من تناول الطعام بطريقة مريحة.
ويروي الأسير المحرر لؤي المنسي الذي أفرج عنه بعد أن اعتقل لمدة 15 عاماً، عن تعرض معلقته الحديدية للكسر، وبقاء الجزء السفلي منها.
ويتابع: "تناولت الطعام بصعوبة بالغة بواسطة الجزء السفلي من المعلقة لمدة تجاوزت الشهرين، حتى رضخت إدارة السجون وأحضرت معلقة جديدة، خاصة أن المعلقة لا يمكن طلبها من خلال "الكنتنيا" وتطلب فقط من قبل إدارة السجون".
كان من ضمن مطالب إحدى إضرابات الأسرى الحصول على قدر كافٍ من الفواكة كالجوافة والبرقوق، والبطيخ والشمام، والتي كانت تعتبرها إدارة السجون بأنها مطالب ترفيهية لا يمكن قبولها.
ويشير الأسير المحرر عبد السلام أبو محسن، إلى أنه طيلة فترة اعتقاله التي استمرت 20 عاماً لم يتمكن تناول الصبر أو التين، فيما تناول الجوافة مرتين فقط، والبطيخ ثلاث مرات، والشمام مرة واحدة.
ويضيف: "إذا أردنا أن نعد أكلة المقلوبة فإننا نقوم بتحضير مكوناتها قبل اسبوع، حيث أن الحصول على حبة بطاطا أو باذنجان ليس بالأمر الهين، حتى أن الحصول على حبة زهرة لا يحصل إلا كل ثلاثة إلى أربعة أشهر، فيما أن الدجاج يكون قد مضى عليه أشهر طويلة في التفريز، فالمقلوبة داخل السجن لا تشبه عن تلك المقلوبة خارج السجن الذي تكون كل مكوناتها طازجة".
"إرباك في النقب بسبب.. مروحة"
خلال فترة أسره، احتفظ الأسير المحرر أبو محسن بمروحة حصل عليها بعد سنوات طويلة من المطالبة بها، وفي العادة لا تسمح إدارة سجون الاحتلال بإدخالها إلا كل عامين أو أكثر للأسرى وبإجراءات معقدة.
وفي إحدى المرات نقلته إدارة سجون الاحتلال من سجن شطة إلى سجن النقب الصحرواي، حيث اصطحب معه المروحة، وعند وصوله للنقب رفض السجانون إدخالها، وسبب له حالة من الإرباك، وامتنع عن الدخول إلا برفقة مروحته، وبعد شد وجذب رضخ له السجانون.
"هي رفيقة دربي، حافظت عليها لسنوات طويلة، كنت اعتني بها كاعتناء الأم برضيعها، ففصل الصيف في السجون الصحراوية لا يحتمله الأسير أبداً، فوجود المروحة يخفف ولو قليلاً من وطأة الحر الشديد"، يقول أبو محسن.
ويقول الأسير المحرر لؤي المنسي، إنه حافظ على فراش سريره والمخدة لمدة 15 عاماً، حيث حصلها عليهما بعد أن تمكن والدته من إدخالهما في بداية اعتقاله عام 2004، وبعدها بسنوات أصبح يمنع إدخال الأغطية من خلال الأهل، حيث يحصلون عليها من خلال "الكنتينا".
ويضيف: "ما توفره إدارة سجون الاحتلال في الكنتنيا من أغطية ومخدات يعتبر من أسوء الأصناف، ويتعرض للتلف والتمزق عند أول عملية غسيل لهما، وبالتالي حافظت على فراشي ومخدتي طيلة فترة اعتقالي، ولم تتعرض للتلف مطلقاً".
يحلم الأسرى بحياة متواضعة، وبحديقة فيها شجرة برتقال، أو ليمون، وفي وسطهما بئر ماء، وأن يجلسوا فيها تحت أشعة شمس ربيعية يتناولوا وجبة فطور بخبز بلدي، ذلك هو الحلم البسيط الذي طالما حلموا به، وأملوا أن يستقروا فيه، لا حياة فارهة ولا سيارات حديثة، فقط يريدون أن يعيشوا بأبسط الأشياء التي حرموا منها، وتحاربهم بها إدارة السجون.
المصدر :الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها