عندما قرر أريئيل شارون سحب جيشه ومستوطنيه من قطاع غزة، كانت خطة استبدال الاحتلال والاستيطان قد نضجت، وباتت القوة المهيأة لتولي المهمة لتحقيق أهداف منظومة الاحتلال الاستيطاني العنصري جاهزة، أول الأهداف كسر العمود الفقري للمشروع الوطني الفلسطيني، ومنع قيام دولة فلسطينية في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية، حسب الاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية، برعاية الولايات المتحدة والدول الكبرى والاتحاد الأوروبي، وثانيها شل عصب حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، وإلغاء منظمة التحريرالفلسطينية وتمثيلها الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وثالثها: منع السلطة الوطنية من استكمال مرحلة بناء مؤسسات الدولة، ورابعها: توصيل المواطن الفلسطيني إلى نقطة الكفر بفكرة التحرر والحرية والاستقلال، وخامسها: وهنا الأهم كما نعتقد، نسف مقومات الثقافة العربية الوطنية الفلسطينية الإنسانية التحررية التقدمية الديمقراطية للشعب الفلسطيني، واستبدالها بمفاهيم (حماس) الظلامية المنغلقة المتخلفة المنفصلة عن الحياة المعاصرة، وسادسها: تهيئة الأجواء لتعميم ظاهرة "داعش" وسلوكه الإرهابي الإجرامي الهمجي، ونعتقد أن عبارة "اسبوا نساءهم" التي سمعناها يوم الجريمة، والقتل بأساليب وأدوات غير مسبوقة كإطلاق الرصاص على ركب المنتسبين للأجهزة الأمنية وثقب كفوفهم بآلات ثقب الحديد والباطون المسلح، ورميهم من أسطح أعلى الأبراج في غزة، وتحويل المساجد إلى أقبية تعذيب، والمراهنة بالقدرة على قتل الفلسطيني الآخر بالقنص، ومحاولات تفجير الأبراج السكنية عبر زرع براميل متفجرات تحت ركائزها وعند قواعدها، كانت جميعها مؤشرات واضحة على منبت داعش الحقيقي!!.
لم يكن انقلاب حماس المسلح الدموي للاستيلاء على السلطة والحكم وحسب، فهذه سلمت لهم وفق القانون وحسب نتائج الانتخابات عام 2006، بل كان فصلاً في خطة المؤامرة الدولية الإسرائيلية تنفذها حماس مع وعد بمكافأتها بتمكينها من الاستيلاء على قطاع غزة تمهيدا لفصله عن فلسطين في المرحلة الأولى، ثم مساعدتها على التمدد في أنحاء الضفة الفلسطينية والقدس إذا ظلت ثابتة على التزاماتها الأمنية مع إسرائيل، وإذا نجحت في مهمة (الضبط الميداني والسياسي) على حد سواء!! وهذا ما نراه على الأرض حيث يتمدد انقلاب حماس نحو الانفصال فيما المؤامرة الدولية والإقليمية على المشروع الوطني في الذروة.
إن اعتبار الانقلاب انقسامًا، والحديث عن طرفي انقسام مساهمة في عملية تضليل الجماهير الفلسطينية، ومحاولة بائسة لتزوير حقائق ووقائع انقلاب حماس الدموي، فحماس اختارت التمركز في الجبهة المعادية والاصطفاف مع القوى المعنية بالتربح من ورقة القضية الفلسطينية والمساومة عليها، الذين أوهموا قادتها بقدرتهم على التحكم بمصير الشعب الفلسطيني من بعيد!! فكلنا نذكر كيف أهدى قادة حماس ما سمي (النصر الرباني) المزعوم (لسادة وأئمة طهران) فما يحدث منذ 15 سنة وحتى يومنا هذا عملية هتك للهوية الوطنية، ومسح الانتماء للوطن، وإحلال الولاء الأعمى لجماعة الإخوان، والتعمية على التقاء المصالح مع منظومة الاحتلال (إسرائيل)، بضرب حركة التحررالوطنية الفلسطينية ومنع تجسيد دولة فلسطينية حرة ديمقراطية تقدمية ذات سيادة .
ما زلنا كمؤمنين بالمنهج الوطني على خط استرجاع قطاع غزة إلى الشرعية الوطنية الفلسطينية واستعادة النظام والقانون، ورفع المعاناة والمآسي عن المواطنين ومحو الآثار الكارثية لانقلاب حماس المسلح الدموي الانفصالي على حيواتهم ونفوسهم ومستقبلهم، فقيادات حماس تركتهم فريسة للفقر والجوع والأمراض النفسية والجسدية، والدمار والركام، واتجهوا للعيش برفاهية مع عائلاتهم في فنادق وفيلات فخمة في الخارج، تركت المواطنين يواجهون بلا أدنى مقومات صمود الانهيارات الاقتصادية الصناعية والزراعية والاجتماعية بعد أن كانت غزة قاعدة اقتصادية صناعية وزراعية استراتيجية في فلسطين.
لا بد من موقف شعبي وفصائلي وحقوقي موحد، موقف صريح وصلب ضاغط على حماس لإجبارها على الانصياع لإرادة جماهير الشعب الفلسطيني وتقديم مصالحه العليا، والكف عن العبث بمناعة الروح المعنوية للمواطن، فنحن في حاجة ماسة لكسر موجات الإحباط واليأس التي تصنعها حماس بين الحين والآخر..لكننا في الوقت ذاته نثق بوعي الجماهير الفلسطينية التي ستبقى عند أقصى درجات اليقظة لمواجهة ذروة التراجيديا في مسلسل المؤامرة المتمددة والمندفعة بكل قوة نحو الانفصال، وتكريس واقع الدولة المؤقتة.
لقد حضّوا مسلحيهم عبر مكبرات الصوت في المساجد المحيطة بأبراج المقوسي في شارع النصر شمال غرب مدينة غزة على اقتحام الحي وهم ينادون مهللين مكبرين: "اغزوهم في عقر دارهم، اقتلوهم، اسبوا نساءهم"!!. ويلخص هذا المشهد الذي حدث صبيحة الخامس عشر من شهر حزيران 2007 بعد أربع وعشرين ساعة من ابتداء الانقلاب المسلح الدموي، ابتداء الجريمة التاريخية بحق الشعب الفلسطيني، عندما أخذ فرع الإخوان المسلمين المسمى حماس على عاتقه تنفيذ خطة مؤامرة دولية إقليمية تولت منظومة الاحتلال إعدادها ورسمها بدقة، وتوزيع الأدوار والأقنعة اللازمة للتمويه.
سيبقى صدى صرخات (اسبوا نساءهم) نذير شؤم على وجودنا كشعب حضاري أصيل على أرض وطننا فلسطين، فالذي يرى الآخر في الوطن مجرد غنيمة لإشباع رغبة جنسية وسلطوية، فهذا يعني أن الغزاة سيتلذذون بمشاهد تآكلنا الذاتي، نتيجة أفعال الذين أنشأتهم حماس على مفاهيم عنف وسفك دماء الآخر الفلسطيني بلا حدود.
*المصدر: الحياة الجديدة*
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها