أحيانًا أشعر بالحزن على حرف النون "ن"، وهو من أجمل أحرف اللغة العربية، لأنه بداية لمصطلحات تخنق الفلسطيني، تألمه وتغضبه في آن معًا، "نكبة ونكسة"، والغريب بالأمر أن الجيل الفلسطيني الذي لم يعش التجربة المرة للحدثين اللذين ضاعت فيهما فلسطين، لا يقل ألمه وغضبه عن ذلك الجيل الذي عاش الحدثين إن لم يكن أكثر. الفارق بين الجيلين، أن الأول يمتلك الذكريات الحسية المباشرة، ومثلت رواية عمره التي لا نهاية لها، والثاني قام بمشقة على تركيب علاقته مع ذكريات الجيل الأول وأبدع بربط نفسه بالمكان وكون علاقة لا انفصال فيها على طريقة الأساطير القديمة.
لست من الجيل الذي عايش النكبة لكنني عشت وطأتها الثقيلة الأولى، لكني ممن عايش نكسة حزيران/ يونيو عام 1967 ويعي تفاصيلها وما صاحبها من صدمة وإحباط كبيرين، وهي في واقع الأمر ليست نكسة، كما حلاً للأنظمة العربية تخفيف وقع الهزيمة، هي بالنسبة للفلسطيني النكبة الثانية، لأن المشروع الصهيوني تمدد على كل فلسطين وأضاف مئات الآلاف من اللاجئين الجدد، ومنهم من عاش مرارة التشريد للمرة الثانية.
وبعد النكسة القاسية، لم يكن غريبًا أن تصل نظرة الجماهير الفلسطينية والعربية إلى الفدائي نظرة فيها شيء من التقديس، خاصة بعد معركة الكرامة في مطلع ربيع العام 1968، فقد أعادت الثورة الفلسطينية للأمة روحها وأعادت لها الأمل بإمكانية الحاق الهزيمة بجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي بدا أنه لا يهزم.
لقد انتظر الشعب الفلسطيني طويلاً حتى نضجت الظروف لتعطي انتفاضة شعبية كبرى في فلسطين المحتلة، انتفاضة كسر خلالها الفلسطينيون شوكة الاحتلال الذي اعتقد انه فرض هيمنته على الشعب الفلسطيني. لقد جاءت الانتفاضة ثمرة للثورة الفلسطينية المسلحة في المنفى، وثمرة لصمود الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة، ولتراكم نضالاتهم على مدار عشرين عامًا، وما لديه من تراث كفاحي يمتد لعقود طويلة.
واليوم بعد 55 عامًا من النكسة، تستطيع إسرائيل أن تدعي أنها حققت الكثير من أهدافها، شردت الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني، استولت على مساحات واسعة من الأرض وبنت عليها عشرات المستوطنات، ويمكن أن تدعي أنها هودت القدس، واستحوذت عليها "عاصمة لها"، ولكن النتيجة النهائية، فقد تحولت إسرائيل إلى دولة فصل عنصري، دولة مهزومة من الداخل، ولا مجال لها إلا أن تعترف بأنه عمليًا تتقاسم الهواء والحياة اليومية مع الشعب الفلسطيني، الذي يحقق النصر بالنقاط يومًا بعد يوم. ليس مفاجئاً أن ترتفع وتيرة البطش الإسرائيلي، فهذا تعبير عن عجز أكثر وعدم ثقة بالمشروع، اكثر من كونها تعبيرًا عن قدرة الانجاز.
المعادلة هي في غاية البساطة هم يملكون كل وسائل القوة، ونحن نملك سلاح الصمود والصبر، هم يعتقدون بأنهم كسبوا الحرب، ونحن واثقون من النصر، هم يشعرون بالتفوق، ونحن نؤمن بقوة الحق، وليس بالضرورة من يملك التفوق ينتصر دائمًا خاصة مع شعب عادي بسيط هو صاحب الأرض الحقيقي. ومع مرور الوقت سيكون الشعب الفلسطيني هو من يضحك أخيرًا لكنه سيضحك كثيرًا على واحد من المستعمرين العابرين، وكما قال محمود درويش وعندما يرحلون عليهم أن يأخذوا أسماءهم وينصرفوا.
*المصدر: الحياة الجديدة*
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها