- جسّدت الكرامة بأحداثها وتفاصيلها ومكوّناتها ونتائجها وأبعادها ملحمةً في الصلابة والتحدي والصمود، ورسّخت دلالاتٍ تُستلهَم منها الدروسُ والعِبَرُ في قدرة الإرادة والعزيمة والتلاحم العربي على قهرِ المستحيلات وتحقيق النّصر المؤزّر

 

أربعةٌ وخمسون عامًا تمرُّ اليوم على النصر العربيّ التاريخيّ الذي صنعته سواعدُ الفدائيين والثوار والأحرار من شعبينا الفلسطيني والأردني في مواجهة أعتى قوة احتلال غاشم متغطرس. هي ذكرى معركة الكرامة التي "شكّلت نقطةَ انقلاب بين اليأس والأمل، ونقطةَ تحوُّل في التاريخ النضالي العربي، وتأشيرةَ عبور القضية الفلسطينية لعمقيها العربي والدولي"، كما عبّر عنها القائد الشهيد الرمز ياسر عرفات، وجسّدت بعظمتها ودلالاتها يومًا خالدًا في تاريخ أمتنا العربية يعانقُ أمجادَ ثورتنا العتيدة.

 

 أبناء شعبنا الفلسطيني الثائر على امتداد الوطن والشتات، جماهير أمتنا العربية الأبية،

 

في مثل هذه الأيام خاضت حركة "فتح" وفصائل الثورة الفلسطينية والجيش العربي الأردني واحدة من أعنف معارك الصمود والدفاع عن ثوابتنا وأهدافنا الوطنية وعن استمرارية الثورة، والتي جاءت لتبعثَ الأمل وتُزيل أشباح الهزيمة واليأس والإحباط المخيِّمة على أمتنا العربية بعد نكسة حزيران. 

 

 لم يكن القرارُ سهلاً أمام حركة "فتح" بأن تخوض هذه المواجهة غير المتكافئة إزاء ما يمتلكه العدو الصهيوني من أسراب الطائرات والآليات الثقيلة والمدفعيات والمدرَّعات والعتاد الضخم مقابل إمكانياتها المتواضعة، ووجّهت العديد من النصائح آنذاك إلى الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات بالتراجع وعدم التصدي للاحتلال، غير أنَّ "أبو عمار" رفض ذلك مُعلنًا أنَّ خيار "فتح" الأوحد دون تردُّد هو الصمود والتصدي بإسناد من الأردن وموقفها الإيجابي تجاه ذلك، وذلك لتحقيق أهدافها في استعادة القوة والكرامة العربية بعد هزيمة عام ١٩٦٧، وترسيخ استمرارية الثورة واشتعال جذوتها عبر تصعيد المواجهة مع المحتل، وقطع الطريق على مشروع الاحتلال الإسرائيلي في الإطباق على الوجود الفلسطيني وتصفية الثورة. 

 

لقد أدركت حركة "فتح" باكرًا مُخطّط الكيان الصهيوني الذي بدأ يتجلّى بفرض سيطرته على هضاب السلط لتحويلها إلى حزام أمني للكيان الصهيوني بهدف استئصال وجود القوات الفدائية في بلدة الكرامة ومحيطها وضرب القوات المسلّحة الأردنية عقابًا للأردن على احتضانه للثورة الفلسطينية، تمهيدًا لهدفها الأكبر بإنهاء العمل الفدائي وتصفية الثورة، لذا كان القرار حازمًا بحتمية القتال والصمود. 

 

وفجر الحادي والعشرين من شهر آذار عام ١٩٦٨، بدأ العدو الصهيوني زحفه العسكري في إطار خطة كانت تقضي باحتلال الضفة الشرقية لنهر الأردن من عدّة محاور بغرض الإطباق على مجموعات الفدائيين ودك مواقع الجيش الأردني وتصفية الوجود الفدائي. غير أنَّ الاحتلال فوجِئ بمخططه يتداعى حين قوبل بمقاومة شديدة من الفدائيين والجيش الأردني وأهالي بلدة الكرامة، ليبادر إلى استقدام طائراته ومدفعياته مستهدِفًا المواقع الفلسطينية والأردنية. 

فاندلعت في بلدة الكرامة الأردنية ومخيّم الكرامة للاجئين الفلسطينيين في غور الأردن أعنف معركة امتدت أكثر من ست عشرة ساعةً خاضها البواسل من فدائيينا بالسلاح الأبيض من مسافة صفر يؤازرهم الجيش الأردني المتمركز عند ضفاف النهر برصاصه حتى آخر طلقة وبمدفعياته، في مواجهة أرتال قوات الاحتلال الإسرائيلي المتفوّقة عديدًا وعُدة، مُسطّرين بتلاحمٍ عربي فلسطيني أردني أسمى صور البطولات بل وعظيم التضحيات، عبر المواجهة من مسافة صفر ونصب الكمائن بل وارتداء فدائيين الأحزمة الناسفة وإلقاء أنفسهم على الدبابات لتنفجر بها موقفين توغل العدو وهجومه على مدخل الكرامة، ومُلحقين به الخسائر الكبيرة. 

 

وأمام هذه البطولة المنقطعة النظير وضراوة قتال أبطالنا الأشاوس وجد الاحتلال نفسه مرغمًا للمرة الأولى في تاريخه على طلب وقف إطلاق النار ظهرًا من قيادته لسحب قتلاه وجرحاه وآلياته المحترقة، ليعاود الانسحاب بشكل كامل في مساء اليوم نفسه. 

 

وبعد ١٦ ساعةً من القتال كانت المحصلة إلحاق الهزيمة النكراء بالعدو الصهيوني معنويًّا وماديًّا، إذ عجز عن تحقيق أيٍّ من أهدافه، علاوةً على ما ألحقه به أبطالنا في الكرامة من خسائر جسيمة بلغت عشرات القتلى والجرحى وتدمير العديد من آلياته، والنجاح في قلب المعادلة لكسر شوكة العدو الصهيوني وتحطيم أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" التي كان يتغنى بها، وإرغامه ليس فقط على طلب وقف إطلاق النار وإنما أيضًا على الإقرار علنيًا بالهزيمة المُدوية التي لحقت به وذلك على لسان وزير العدوان الصهيوني آنذاك موشي دايان. 

 

 

أبناء شعبنا الفلسطيني الثائر على امتداد المعمورة،

 

لقد جسّدت الكرامة بأحداثها وتفاصيلها ومكوناتها

ونتائجها وأبعادها ملحمةً في الصلابة والتحدي والصمود، ورسّخت دلالاتٍ تُستلهَم منها الدروسُ والعِبَر، إذ قدمت خير مثال يعكس قدرة الإرادة والعزيمة على قهر المستحيلات، وكرَّست أبهى صور التلاحم العربي في سبيل فلسطين بامتزاج الدم الفلسطيني والأردني وقدرته على تحقيق الصمود والنصر المؤزر، وعزّزت من مكانة وقوة حركة "فتح" باعتبارها الحركة الرائدة في بعث النضال الفلسطينى نحو التحرر من الاحتلال، وشكّلت بعظمتها دافعًا وطنيًّا وعروبيًّا لشباب أمتنا العربية للانضمام إلى صفوف الثورة، وتجلى ذلك في سيل طلبات التطوع في الثورة الفلسطينية من المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين والعرب بل والأجانب، إلى جانب تعاظم المد الجماهيري المؤيد للقضية الفلسطينية والذي تجلى على صورة المظاهرات والهتافات المؤيدة للثورة الفلسطينية ولحركة "فتح". 

 

وإنَّنا اليوم إذ نُحيي هذه الذكرى المجيدة، نتوجه بتحية إجلالٍ وإكبارٍ واعتزازٍ إلى أرواح عشرات الشهداء الأبرار من الفدائيين وضباط وجنود الجيش الأردني الذين ارتقوا في الكرامة وإلى الجرحى والأسرى الذين استبسلوا، مجددين العهد بأن نبقى المتمسّكين بالثوابت الوطنية والأوفياء لمسيرة ووصايا الشهداء، ملتفين حول قيادتنا الفلسطينية وعلى رأسها السيّد الرئيس محمود عبّاس، على درب التضحية والفداء والنضال، حتى تحقيق تطلعات شعبنا وأهداف قيادتنا الشرعية في دحر الاحتلال الإسرائيلي عن أرضنا وإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي أُخرِجوا قسرًا منها.

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار 

والحرية لأسرانا البواسل 

والشفاء لجرحانا الميامين 

وإنها لثورةٌ حتّى النّصر والتحرير والعودة