عاشت جمهورية كازاخستان مع مطلع العام الحالي (2022) تطورات دراماتيكية في أعقاب ارتفاع أسعار الغاز المسال، واحتلت الدولة الأكبر في آسيا الوسطى صدارة الصحافة والفضائيات ووكالات الأنباء العالمية مع اندفاع التظاهرات لشوارع جاوزين في منطقة مانغيستاو غرب البلاد، قبل أن تنتقل شرارتها بشكل غير مسبوق إلى مدينة أكتاو، ثم إلى عاصمة الاقتصاد الكازاخستاني، ألماتا.

وامتدت التظاهرات على مساحة البلاد بشكل سريع وعنيف، مع أنها بدأت سلمية، لكنها سرعان ما تحولت لتظاهرات عنفية، استهدفت مؤسسات الدولة، وشابها الفوضى والنهب، وغيرها من الأعمال المسيئة للحراك الشعبي. ما نجم عنها سقوط عشرات الضحايا وما يزيد على الألف جريح من ضمنهم ما لا يقل عن 320  شرطيًا ورجل أمن وما يزيد على العشرين ضحية، وهذا عكس حجم ونوعية التحولات الاجتماعية، واختلاط وعي القوى المحركة بين مصالح الشعب والفوضى، الأمر الذي ساعد النظام على التشهير بالقائمين على الحراك الشعبي. وساعد النظام الذي استقل عن الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991، وحكم لمدة ثلاثة عقود من قبل الرئيس نور سلطان نزارباييف حتى عام 2019، عندما حل محله سيادة الرئيس الحالي، توكاييف، الذي يعتبر ظلاً وامتدادًا له ولحكمه، على تشويه صورة الانتفاضة أو الثورة، التي أرادت إسقاط النظام حسب الشعارات، التي رفعها المتظاهرون، الذين رفضوا تراجع نظام الرئيس قاسم جومارت توكاييف عن رفع الأسعار، وعودة الأمور لما كانت عليه قبل المظاهرات.

وهو ما يشير إلى أن رفع الغاز لم يكن سوى الشرارة، التي أشعلت السهل الكازاخستاني. لأن الواقع الاجتماعي الاقتصادي يشير إلى وجود عوامل مختلفة ساهمت في تعاظم حركة الشارع الكازاخستاني، ومنها أن نسبة الفقر في البلاد وصلت إلى 13%، رغم أن كازاخستان تعتبر تاسع أكبر دولة في المساحة عالميًا (2,7 مليون كيلو متر مربع)، وتتمتع بأكبر اقتصاد في آسيا الوسطى. وهذا يعود لكونها من الدول الغنية بالنفط والغاز والثروات الطبيعية الأخرى. وبالتالي لم تكن التظاهرات الضخمة، والواسعة الانتشار في طول وعرض البلاد تنحصر برفض زيادة أسعار الغاز, وإنما تستهدف بنية ومركبات النظام السياسي بشكل كامل. الأمر الذي دفع روسيا الاتحادية المرتبطة مع دولة الرابطة الآسيوية بتحالف إقليمي تحت مسمى "منظمة الأمن الجماعي" إلى التدخل أولا لأنها جزء هام من الدول التابعة للمنظومة الأمنية الروسية، ثانيا توجد فيها أهم وأكبر قاعدة فضائية منذ 60 عاما، وهي قاعدة "بايكونور الفضائية"، التي انطلق منها رائد الفضاء يوري غاغارين؛ ثالثا تقع مباشرة على حدود الدولة الروسية، وهي أسوة بأوكرانيا، تعتبر من الحدائق الخلفية للدولة الروسية؛ رابعا كما أنها جزء لا يتجزأ من تقاسم النفوذ في العالم بين الأقطاب الدولية. التي لا يمكن حتى الآن حدوث تغيير جوهري فيها، طالما بقيت روسيا الاتحادية أحد الأقطاب الدولية المقررة في السياسة العالمية، وهو ما يعرفه الغرب الرأسمالي عموما والولايات المتحدة خصوصا، وبالتالي الحملات الإعلامية الغربية، وفرض المزيد من العقوبات، وتسخين الحرب الباردة، ليست أكثر من عملية ابتزاز، ومحاولات لفرض معادلات جديدة في الجيوبوليتك والنفوذ الروسي، تمهيدا للتقاسم الجديد في العالم، الذي ما زال يتفاعل على نار دافئة.

النقطة المهمة في المعادلة الجديدة، هي رغم نضوج عوامل الثورة الذاتية في بلد كما كازاخستان، بيد أن العامل الموضوع، كانت له اليد الطولى في تقرير مستقبل البلاد. ولم يسمح للشعب الكازاخستاني بتقرير مصيره بنفسه، لأن أية تحولات داخلية في كازاخستان خارج نطاق سيطرة القطب المقرر في الإقليم، تعني خلط أوراق الإقليم ومعادلات تقسيم النفوذ في العالم، وهو ما لا يمكن لروسيا بغض النظر عن اسم الحاكم أو الحزب القائد القبول به. لأن المصالح القومية الروسية كلها تصبح على كف عفريت في حال تغاضت عن تلك التحولات، وتصبح لاحقا لقمة سائغة في فم الغرب والشرق على حد سواء.

والنتيجة الفكرية العلمية، التي كرستها الثورات العالمية تاريخيا والقائلة، في حال نضجت شروط الثورة، وأمسى نظام الحكم ضعيفا، وغير قادر على الحكم والإمساك بزمام الأمور، وبات الشعب فاقدًا الثقة بالنظام السياسي، ولا يقبل ببقائه، فإن الثورة تصبح لا محالة حتمية وضرورية. ومع أن الاستنتاج العلمي منح دورًا حاسمًا للعامل الموضوعي كمساعد للثورة. لكنه منح الأولوية والتقرير للعامل الذاتي في مسار الثورة. لكن عالم ما بعد العولمة الأميركية، وفي ضوء التحولات النوعية، وصراع الأقطاب على تقاسم النفوذ الجديد في العالم، بات العامل الموضوعي مقررًا، والعامل الذاتي تابعًا، وهامشيًا.

ومن تابع اللوحة في ما يسمى الربيع العربي، يستطيع تلمس ذات النتيجة العلمية. وهذا التحول الدراماتيكي في خارطة الصراع الوطني والقومي يستدعي التنبه له، وأخذه بالحسبان، ووضعه على رأس جدول أعمال أية قيادة ثورية لحماية ثورتها أو تحولاتها الإصلاحية.

المصدر: الحياة الجديدة