أشرب القهوة كثيرًا، أشربها عادة بلا سكر، ولم يخطر ببالي يومًا أن أفكر بماهية القهوة، وأنا أحتسيها، لا أعني حقيقتها الكيماوية، وإنما أحوالها وتحولاتها التي تمر بها حتى زيجتها الساخنة مع الماء، من بذرة تبدأ، إلى زهرة، إلى ثمرة تقطف ثم تجفف، ثم تحرق، وتطحن، وتتحول إلى مسحوق برائحة غامضة، بقدر ما هي لافتة ومميزة، وبمذاق أكثر غموضًا، بقدر ما فيه من مرارة طيبة، وكأنها تحث شاربها على اكتشاف معنى هذا الغموض وغايته، إذ كيف تصبح المرارة طيبة وشهية إلى هذا الحد؟؟ رأيت القهوة كأنها تلك الفراشة في تحولاتها، من بيضة، إلى يرقة تغزل من حولها ثوبًا من الحرير، وتبات خادرة، تنمو في سكونها، من طور إلى آخر حتى تخرج من ثوبها الحريري، كمثل وردة حية، بأجنحة تحتفي باللون، وتحمله كمثل هوية شخصية!! 
بعد كل هذا العمر من شرب القهوة، أحسستها اليوم مع أول رشفة وبعد أن تمكن مذاقها من لساني، كأنها تحدثني، وأول ما قالت أشكر للخالق العظيم، الرحمن الرحيم، حاسة الذوق التي وضعها على لسانك، كي تستطعم المر شهيًا كالعسل وأشكر له حاسة الشم، التي جعلت منك مأخوذًا برائحتي كلما أعددتني لزيجتي الساخنة، وخذني على مهل كي نصحو سوية على فكرة النهار، وفي المساء كي نخرج إلى هسهسة الليل، لعلها تتنزل علينا ملائكة البصيرة.
نعم حدثتني قهوتي، كلمتني كمثل ما تكلمني القصيدة، فارهة الجماليات، في مرها المجاز شغوفًا كمثل عاشق ولهان، والكناية كمثل سيدة بخمار أندلسي يمنع كي يمنح المخيلة ما تشتهي من المتعة، لك أن تمضي معي دائما في دروب التأمل، أن تأخذني لتأخذ الصحو إلى باحة التنور، أنا سيدة المزاج، لك مني مع كل رشفة رغبة في الشطح خارج النص.
وأنا سيدة التروي حين حكاية الوطن حكاية الأمل التطلع، وحين حكاية الشهيد، حكاية القداسة، وحين حكاية الأسير، حكاية ألحرية، وكلما رأيتني على هذه الحال، وكلما احتسيتك كما تحتسيني، ستراني في الكلمة وسأراك في المعنى.. أنا القهوة يا قريني. 

المصدر: الحياة الجديدة