صبيحة الحادي عشر من آذار عام ١٩٧٨ كان العالم على موعدٍ مع إحدى أكبر وأهم عمليات الثورة الفلسطينية وحركة "فتح" في قلب الداخل الفلسطيني المحتل، إذ نفّذت مجموعة "دير ياسين" عملية "الشهيد كمال عدوان" البطولية، والتي تُعرف أيضًا بعملية "الساحل"، بقيادة المناضلة اليافعة دلال المغربي، مُبدين عنفوانًا وإصرارًا وشجاعةً عزّ نظيرها، ليقيموا أول جمهورية فلسطينية في عمق الكيان الإسرائيلي، ويدبّوا الرعب في أركانه، ويزعزعوا منظومته الأمنية والعسكرية، ويمرّغوا هيبة جيشه المزعومة في التراب. 

 

ففي هذا اليوم المجيد قدّمت لنا الماجدة دلال ومجموعة الفدائيين درسًا عظيمًا في الولاء والانتماء، وفي أهمية التسلُّح بالوحدة والإصرار على مواجهة الاحتلال مهما بلغت التضحيات، وفاءً لدماء الشهداء، وصونًا للكرامة الوطنية، وإيمانًا بأنَّ من أجدى سُبُل استعادة الأرض والمقدسات هي المواجهة المباشرة مع الكيان الإسرائيلي وإلحاق الأذى به في عمقه. 

 

صدى هذه العملية النوعية كان هائلاً، ولكن لم يكن أحدٌ ليتوقعَ أنَّ قائدتها هي هذه الشابة اليانعة الرقيقة، ابنة اللجوء التي وُلِدت في مخيّم صبرا في بيروت، لأسرة من يافا لجأت إلى لبنان في أعقاب النكبة، وكانت منذ طفولتها مُفعَمةً بالحماسة الثورية والوطنية، فالتحقت بالحركة الفدائية الفلسطينية وهي على مقاعد الدراسة، وانضوت في حركة "فتح"، وشاركت عام ١٩٧٣ في معركة الدفاع عن الثورة الفلسطينية في بيروت.

 

ولكنّ دلال المُثقلةَ بآلام اللجوء ومعاناته، والبعد القسري عن الوطن، وبمشاعر الغيظ والقهر بعد اغتيال ثلاثة من أعمدة الثورة هم الشهداء: كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار على أيدي الاحتلال الإسرائيلي، كانت مسكونةً برغبة عارمة في الاقتصاص لدماء الشهداء، وإيقاع الألم بكيان الاحتلال، لذا وعند أول فرصة لاحت لها انبرت للمشاركة في العملية التي خطط لها الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، وكان لانتمائها الوطني الأصيل وحماسها الثوري وجرأتها وتدريبها العسكري ووعيها التنظيمي بالغ الأثر في اختيارها وهي في سن العشرين لقيادة فرقة دير ياسين لتنفيذ العملية. وهكذا تسلّلت على رأس المجموعة الفدائية صباح الحادي عشر من آذار عام ١٩٧٨ من لبنان إلى ساحل أراضينا المحتلة، ونجحوا في الوصول إلى تل أبيب حيثُ استولوا على حافلة بجميع ركابها الجنود الإسرائيليين، وفي طريقها إلى تل أبيب أخرجت دلال من حقيبتها علم فلسطين وعلقته داخل الحافلة وهي تردد: "بلادي.. بلادي لك حبي وفؤادي، فلسطين يا أرض الجدود إليك لا بد أن نعود"، لتقيم أول جمهورية فلسطينية. 

وبعد أن أصبحت دلال وفرقتها على مشارف تل أبيب اشتبكت فرقة خاصة من جيش الاحتلال مع المجموعة، فاستشهدت دلال مع زملائها، ووقع فدائيان في قبضة الاحتلال، فيما مُني العدو الإسرائيلي بعشرات القتلى والجرحى، واحترقت سيارة الركاب بمن فيها، ليعترف لاحقًا رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها مناحيم بيغن بمقتل 37 من الإسرائيليين ووقوع أكثر من ثمانين جريحًا.

 

إنّ عظمة هذه العملية النوعية في عمق الاحتلال لم تقف فقط عند أثرها المباشر وما ألحقته من خسائر بحق العدو الإسرائيلي، وإنما في أثرها طويل الأمد، الذي جعل من الثورة والفدائيين وحركة "فتح" هاجسًا يؤرق مضاجع الاحتلال، وفي الموعظة الوطنية والثورية التي جسّدتها. 

 

في الحادي عشر من آذار، شهر البذل والتضحيات والأمل، رحلت دلال ورفاقها جسدًا، ولكنّ ذكراهم بقيت خالدةً فينا بما أودعوه في أذهاننا ونفوسنا من العبر والمواعظ ومُثُل العزة والإرادة والكرامة، التي حفرت في وجداننا الدروس الوطنية في أهمية شراكة المرأة والرجل في مسيرة الكفاح ومعركة التحرير والاستقلال والبناء، وفي أهمية الوحدة والتماسك والإصرار والثبات على جمر المبادئ، حتى تحقيق الهدف. 

 

في ذكرى شهدائنا الأبرار، العهد لهم بأن نواصل مسيرة النضال حافظين أمانة ووصية الشهداء حتى النصر والتحرير، نورثها للأجيال المتعاقبة، فنتَّخِذها دافعًا لنا على البذل والعطاء ومواصلة التضحيات في ظلّ أصعب مرحلة تعصف بقضيتنا الفلسطينية، والعهد منّا لدلال بأن تبقى فلسطين الغاية والهدف وبوصلة "فتح" الدائمة، وأن تبقى البنادق، كل البنادق، موحدةً موجهةً نحو العدو الصهيوني، وأن نبقى الأحرص على الوحدة الوطنية، على درب الشهيد القائد ياسر عرفات، وخلف الثابت على ثوابتنا وحامي قرارنا المستقل القائد العام السيد الرئيس محمود عبّاس. 

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار 

وإنها لثورةٌ حتّى النّصر والعودة

إعلام حركة "فتح" - إقليم لبنان