الثورات القومية التحررية ليست نسخ كربونية عن بعضها البعض، فكل ثورة لها سماتها الخاصة ارتباطًا بطبيعة الاستعمار الجاثم على أرض وحياة هذا الشعب أو ذاك؛ والأهم واقع الشعب وتطوره السياسي والاقتصادي الاجتماعي والثقافي؛ وارتباطًا بالشروط الموضوعية المحيطة بتجربة كل ثورة. وبالتالي حركات التحرر وثوراتها تختلف باختلاف البيئات الحاضنة لها، وبشرط وأهداف ومشاريع المستعمرين، بتعبير أوضح، هل هدف الاستعمار سياسي اقتصادي، أم استعمار مغتصب للأرض والتاريخ والهوية؟ هل هو استعمار مؤقت، أم استعمار عميق وطويل؟ وما هي علاقة الإستعمار بالقوى الدولية المتنفذة عالميًا؟ وهل القوة الاستعمارية لها هوية قومية ووطن، أم قوة وظيفية استعمالية طارئة، زُورت لها هوية مفبركة لحسابات قوى استعمارية عالمية؟

من المؤكد أن أشكال الاستعمار ليست واحدة في التاريخ، ومن أعقد أشكال الاستعمار، هو الاستعمار الصهيوني، الذي يدعي "الأحقية" في الأرض الفلسطينية العربية، ويقوم على نفي وجود وهوية الشعب الأصلي، الشعب الفلسطيني، والمدعوم من الغرب الاستعماري. وهذا الاستعمار تم تجميع قواه من أتباع الديانة اليهودية المضللين، الذين ساقهم الغرب الرأسمالي وأداته الحركة الصهيونية للتخلص من المسألة اليهودية في داخل بلدانه، ولاستثمار وتوظيف الصهاينة في مشروع كولونيالي يتجاوز في مهامه احتلال فلسطين التاريخية، وصولا لتمزيق وتفتيت وحدة شعوب الأمة العربية، وتبديد المشروع القومي العربي النهضوي، وليضرب عصفورين بحجر، أي التخلص من اليهود من مختلف الإثنيات والأعراق ومن العرب وتطورهم على حد سواء، لتحقيق أكثر من هدف سياسي واقتصادي وثقافي وديني. لا سيما وأن الغرب مازال مسكونًا بخلفيته الصليبية، وهو ما عبر عنه أكثر من رئيس للولايات المتحدة.

دون الخوض في التاريخ، فإن الاستعمار الصهيوني الجائم على الأرض الفلسطينية التاريخية منذ 72 عامًا، والمدعوم من القوى الرأسمالية العالمية عموما والأميركية خصوصًا، تمكن من تكريس وجوده على الأرض الفلسطينية، ويسعي بشكل متدحرج لتعميق وتوسيع عملية التطهير العرقي ضد ابناء الشعب الفلسطيني، وتكريس روايته المفبركة والمزورة على حساب هوية وتاريخ وميراث الشعب الفلسطيني، وساعده في ذلك ضعف وتهالك المنظومة العربية الرسمية والشعبية على حد سواء لأسباب مختلفة ذاتية وموضوعية.

وعليه كان على قوى الثورة الفلسطينية إعادة الاعتبار للقضية والهوية الوطنية، وتكريس الكيانية الفلسطينية خطوة خطوة على الأرض، مستفيدة من كل إنجاز مهما كان صغيرًا ومحدودًا لتأكيد المكانة الفلسطينية في الجيوبوليتك، وفرض الحضور السياسي لانتزاع الاستقلال الناجز على أي جزء من أرض فلسطين التاريخية، والذي تم عبر اتفاقية أوسلو 1993، رغم كل نواقصها ومثالبها، وأقام سلطته الوطنية عام 1994، ومازال يواصل الكفاح لإقامة دولته الوطنية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194، والمساواة الكاملة لأبناء الشعب في الـ48.

ولترسيخ هذه الكيانية، وتطويرها، ولتعميق مصداقيتها وجذورها السياسية والقانونية والاقتصادية والثقافية، تطلب ذلك بناء مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية. وهنا كما نلاحظ، فإن العمل وفق معايير الدول، رغم وجود الاستعمار الصهيوني، لا يضير الشعب الفلسطيني، ولا ينتقص من كفاحه التحرري، لا بل هو شكل من أشكال الكفاح الوطني، ويعزز الحضور الفلسطيني العربي مدماكًا مدماكًا على الصعد والمستويات كافة. ومن يعتقد أن إجراء الانتخابات البرلمانية تحت سيف وبطش الاستعمار "نقيصة" أو "مأخذًا" أو "يخدم الاستعمار الصهيوني" يكون مخطئًا، ولا يرى أبعاد العملية الكفاحية، ولا يقرأ جيدًا لوحة الصراع والشروط الذاتية والموضوعية المحيطة بالقضية والشعب الفلسطيني.

إذًا الانتخابات البرلمانية مصلحة وطنية أولًا، وتطويرًا للدولة الفلسطينية الموجودة على الأرض، حيث الشعب والأرض والمنظومة السياسية الحاكمة ثانيًا، وانتصارًا لقرارات الشرعية الدولية وخيار السلام الممكن والمقبول ثالثًا، وردًا واضحًا وصريحًا على المشروع الصهيوني وروايته، وتقزيما لأهدافه الكولونيالية رابعًا.

كما أن الانتخابات البرلمانية لا تنتقص من دور أي شكل من أشكال الكفاح التحررية، إنما هي عملية سياسية متكاملة، كل منها يعمق خيار وهدف الاستقلال السياسي الناجز، رغمًا عن الاستعمار وأذنابه ومن يقف خلفه.